استفزّت صورة نعش الجنديّ الإسرائيليّ أثناء مروره تحت جداريّة ضخمة لسلطان باشا الأطرش وكمال جنبلاط، شريحة واسعة من الدروز، وعلى رأسهم الزعيم الدرزيّ وليد جنبلاط، الذي استهجن المشهد، معتبراً أنّها إهانة لذكرى البطلين العربيّين، في إشارة إلى سلطان باشا الأطرش الذي واجه الوصاية الفرنسيّة في سوريا، وكمال جنبلاط الذي واجه المشروع الإسرائيليّ في لبنان.
لطالما كانت قضية دروز فلسطين جدليّة إلى حدّ بعيد، كون أبناء هذه الطائفة في المنطقة بشكل عام وفلسطين بشكل خاصّ عروبيّين في قوميّتهم، لكنّهم براغماتيّين مع المتغيّرات. وفي واقعهم اليوم، فإنّ جميع دروز فلسطين يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة، ونسبة منهم تخدم في الجيش الإسرائيليّ، لكن في الآن عينه، يتمسّكون بأرضهم ويرفضون المشاريع الاستيطانيّة، ويُحافظون على تقاليدهم العربيّة، كاللغة.
ثمة مقاربة تنسب إلى الدروز تركيزهم على أولويّتين، الأولى حماية الطائفة وأهلها، والثانية حفظ الأرض وعدم تركها، وهذا ما يُفسّر موقف دروز فلسطين الذين حملوا الجنسيّة الإسرائيليّة لكنّهم لم يتخلّوا عن أرضهم. وفي سياق المقاربة، فإن الدروز أقليّة تفتقر إلى الدعم الدوليّ، ما يدفعهم إلى اتّخاذ مواقف براغماتيّة تتماشى مع المتغيّرات لحماية أنفسهم، وهذا هو واقع دروز فلسطين.
منذ اندلاع حرب غزة الأخيرة، تكثّف النقاش حول واقع دروز الداخل وتموضعهم. علا صوت وليد جنبلاط تكراراً، وسلّط ضوءًا كثيف على معادلة الطائفة والتاريخ والجغرافيا والهوية. في الآتي يقرأ الوزير السابق غازي العريضي في المشهدية من صلب المعادلة التوحيدية العروبية، وهو الباحث في التاريخ والمحطات والمتابع عن كثب.
تمييز عنصري و"ترهيب وترغيب"
العريضي يتحدّث عن واقع دروز فلسطين، ويُشير إلى "إصرارهم على البقاء في أرضهم وحفاظهم على تاريخهم منذ قيام دولة "الاغتصاب والارهاب" إسرائيل التي مارست سياسة الترهيب والترغيب ضدهم، واستخدمت بعضاً منهم في مواجهة الفلسطينيين، وفرضت عليهم التجنيد الاجباري في الجيش الإسرائيلي، فمنهم من وافق ومنهم من رفض فتعرّض للتعذيب والضغط".
وتطرّق العريضي إلى بقاء الدروز في أرضهم رغم مُحاولات التهجير، ولفت في حديث خاص لـ"النهار" إلى أن "أراضيهم صودرت، وبقي لهم قسم منها، وفي هذا القسم، كانوا يتعرّضون دائماً لضغوطات ولسياسة تمييز وابتزاز، وحتى أيامنا هذه، ثمة كثيرون ينتظرون فترة طويلة للحصول على ترخيص للبناء على أرضه بسبب رفض الاسرائيلي ومماطلته وابتزازه لأنه يريد ثمناً لكل ذلك".
صوت درزي معارض لإسرائيل ودور لجنبلاط
إلى ذلك، ثمّة صوت درزيّ معارض لإسرائيل ومناصر لمبدأ مقاومتها، إلّا أنّ هؤلاء اختاروا الميادين السياسية والفكرية والثقافية كأداة مقاومة، وليس العسكر، فقادوا حملات ضدّ إلزامية التجنيد في الجيش الإسرائيليّ، وعملوا على التثقيف السياسيّ من خلال التجمّعات والكتابات وكلّ أشكال التعبير الثقافيّ في مُحاولة للتأثير.
في هذا السياق، أشار العريضي إلى أن "حركة المقاومة لهذا لمشروع أخذت أشكالاً عديدة، وانخرط عدد كبير من الدروز في أكثر من حركة باتجاه الدعوة لرفض التجنيد الإلزامي والتمسّك بالهوية والانتماء والانفتاح على العرب والفلسطينيين ورفض السياسات الإسرائيلية وسياسة الاستيطان، وهؤلاء كانوا يتعرضون لاضطهاد كبير وإسرائيل كانت تقف إلى جانب الذين يواجهون هذا الفريق".
وكان لجنبلاط دور فاعل في هذا السياق، ويقول العريضي: "تصاعدت الحركة وخلقت مناخاً معيناً، وكان ثمّة انفتاح من قبلنا على هذه الحركة منذ ثلاثة عقود تقريباً بشكل مباشر بعد سلسلة من النداءات وجّهها جنبلاط، وشجّعنا على هذه الحركة، وهذا شكل انزعاجاً كبيراً للاسرائيليين وزاد الضغط على من يتجاوب مع هذه الدعوة".
ويلفت العريضي إلى العديد من الأسماء التي لمعت في ميادين المقاومة السياسية والفكرية، ويُشير إلى أن "ثمّة كتّاباً وأدباء وشعراء، كسميح القاسم، سعيد نفّاع الذي كان يقود حركة كبيرة وهو اليوم رئيس اتحاد الكتّاب، علماً أن عدداً كبيراً من الدروز هم أعضاء في اتحاد الكتّاب، وعدد كبير لهم مواقع في مجال التعليم، سواء الثانوي أو الجامعي، وبالتالي لهم مواقع تأثير، وهم منسجمون مع رفض السياسات الإسرائيلية ورفض الوقوف بوجه الفلسطينيين".
وفي سياق مساعي جنبلاط لتزخيم هذه المقاومة الفكرية ومحاولاته دمج دروز فلسطين في محيطهم العربي، يكشف العريضي عن "مناشدة الدول العربية لاستيعاب هؤلاء ومحاولة مساعدتهم من خلال منح جامعية، بهدف انخراطهم مع الشباب العرب والدرس في جامعات عربية، لكن للأسف لم تلق محاولاتنا التجاوب المطلوب".
"الوهم الكبير"... هل للدروز امتيازات سياسية ومدنية في إسرائيل؟
إلى ذلك، ثمّة ما يُمكن إطلاق عليه "الوهم" الكبير، وهو تبوّؤ الدروز مواقع متقدّمة في المؤسسات الإسرائيلية، وبينها الجيش، ويعتقد البعض أن إسرائيل تمنح الدروز مواقع قيادية لدمجهم في المجتمع الإسرائيلي، لكن السياسة العبرية مغايرة لهذا المنطق، وهدفها زرع الانشقاق بين الفلسطينيين واستخدامهم بوجه بعضهم، والاستفادة من قدراتهم في مشاريعها.
هنا، يعتبر العريضي أن "الاستهداف الأكبر جاء في ظل كذبة كبيرة كانت تروجها إسرائيل، التي كانت تقول إنها قدّمت "امتيازات" للدروز وميّزتهم، خصوصاً على مستوى وصول البعض منهم إلى مراكز القرار على مستوى القيادات العسكرية في الجيش، لكن هذا كان عملياً استخدام لهؤلاء من خلال هذه المواقع ضد الفلسطينيين وشركائهم في الأرض".
ويُتابع العريضي سرده في هذا السياق ويقول: "أما على مستوى الحقوق المدنية والحياة اليومية، فقانون القومية الذي صدر في إسرائيل معروف، الذي يعتبر الدولة يهودية، والاهتمام المركزي الأساسي هو بالعرق اليهودي، وبالتالي نحن أمام سياسة تمييز عنصري عرقي، الأولوية لليهود على حساب كل الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية".
رفض الدروز واقع التمييز، وحسب العريضي، تحرّك الدروز ورفضوا قانون القومية، فالتقى نتنياهو بقسم منهم وطلب إليهم تقديم ملاحظات وأفكار، وهذا ما حصل، لكن الأمور بقيت على ما هي عليه ولم يؤخذ بأي بند من هذه البنود، والأمور كلها بقيت على ما هي عليه، فتم تأكيد سياسة التمييز العنصري باعتبار الدولة قومية يهودية، وتحت هذا العنوان يقع وجود أبناء طائفة الموحدين الدروز.
بما يتعلّق بمستجدات القضية الفلسطينية وحرب غزّة، يعود العريضي ليتحدّث عن دور جنبلاط ونداءاته للانتباه إلى مسألة الالتحاق بالجيش الإسرائيلي والاقلاع عنها، ويقول: "سألناهم: لماذا تفعلون ذلك؟ ففي ظل القومية اليهودية، الحريديم، وهم يهود، سُن لهم قانون في الكنيست يحررهم (أي للحريديم) من الخدمة في الجيش الإسرائيلي، فلماذا الاندفاع الدرزي بهذا الشكل في حين أن فريقاً من اليهود تُسن له قوانين لتحريره من الخدمة العسكرية؟"
ويُشير إلى "المئات من كبار الضباط اليهود الذين يطلبون إعفاءهم من الخدمة بسبب ما جرى في غزّة"، ويلفت إلى أن "رؤساء حكومات وورزاء ومسؤولين أمنيين سابقين وحاليين يتحدّثون عن الخطايا الكُبرى التي حصلت، والإدارة الأميركية تتحدّث عن عزلة، وثمّة دعاوى ضد إسرائيل في محكمة الجنايات ومحكمة العدل الدولية، وكل ما نقوله للدروز، هذا هو المشهد أمامكم، لا يجوز الاندفاع بهذا الشكل حرصاً على هويتكم وبقائكم في أرضكم".
الدروز ورفض مشاريع التقسيم
إن الدروز في منطقة الشرق الأوسط غير منفصلين عن بعضهم بعضاً، والتواصل قائم بين دروز لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، انطلاقاً من الروابط الدينية والتاريخية والقومية العربية، وحتى العائلية في الكثير من الأحيان، وبالتالي فإن مواقفهم أيضاً متشابكة وتتأثّر في الكثير من الأحيان ببعضها، وخصوصاً بمواقف جنبلاط المتُابع لقضاياهم في مختلف الدول.
في هذا السياق، طُرح مشروع افتراضي يقوم على فكرة الدولة الدرزية، وهو يندرج في سياق مشروع تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية يصب في مصلحة إسرائيل كدولة ذات قومية يهودية، فيُضعف محيطها ويُشتّته ويحوّله إلى مجموعات طائفية متناحرة متصارعة منشغلة بشؤونها وبعيدة عن القضية الفلسطينية المركزية وتحرير القدس من إسرائيل.
لكن هذا المشروع اصطدم برفض درزي واضح، وفي هذا الإطار، يقول العريضي إن "كمال جنبلاط رفض مجرد فكرة إقامة دولة درزية، ثم حمل لواء قيادة مواجهة وتفتيت مشروع تقسيم لبنان، انطلاقاً من تأكيده الحرص على وحدة لبنان وهويته العربية، وأكمل هذا الدرب وليد جنبلاط، الذي اعتبر أن القضية الفلسطينية هوية، ولا يُمكن أن نكون إلّا إلى جانب الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه رفض أن يكون الدروز حرس حدود لإسرائيل".
في ما يخص الأردن، فإن العريضي يتحدّث عن "تفاعل الدروز مع إخوانهم الفلسطينيين، وحضور عاقل وهادئ ومميّز، ومن هو في موقع المسؤولية يتخذ مواقف مهمة ضد هذه الحرب والإبادة الجماعية وما يجري على يد الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين"، وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي ينتمي إلى دروز الأردن.
وفي ما يخص سوريا، يلفت العريضي إلى "موقف ثابت ومبدئي، فكل الرسائل التي أرسلت إلى الدروز في السويداء عنوانها "أنتم جزء لا يتجزّأ من الشعب السوري"، وبالتالي لا يُمكن أن نكون مع أي حالة انفصالية بغض النظر عن كل مواقفنا وخلافاتنا مع النظام في سوريا، وأنتم كدروز يجب أن تكونوا على علاقة وشراكة جيدة مع إخوانكم في المنطقة ومع كل الشعب السوري".
ويُشير إلى مُحاولات إسرائيل خرق دروز السويداء، ويقول إن "إسرائيل حاولت أن تستغل وتدخل إلى النسيج السوري تحت عنوان "غيرة الدين" من قبل بعض الدروز وعبر مساعدات مالية وطبية في بعض الأحيان، وكان لنا موقف واضح وثابت، أياً تكن الاعتبارات في وجه النظام السوري لا يُمكن أن نكون أداة في المشروع الإسرائيلي على الإطلاق".
في المحصّلة، فإن واقع دروز فلسطين يتأرجح بين الجنسية الإسرائيلية والقومية العربية، لكن ما هو مؤكّد أن ثمّة صوتاً اعتراضياً واضحاً في صفوفهم يرفض الاندماج في المجتمع الإسرائيلي ويُصر على الهوية العربية، والتعويل على توسيع رقعة التثقيف السياسي ورفع نسبة الوعي في صفوف دروز فلسطين، كي لا يكون جزءاً من المشاريع الإسرائيلية في المنطقة.