سامي داوود
نحتُ الموت
دَبغت المهانة وجه سوريا التي انتفضت لأجل كرامةٍ مُستباحة منذ عقود؛ فتكاتفت الأزمات محوّلةً الحياة فيها إلى آفة؛ وانفصل فعلُ التعذيب عن العلاقة المباشرة مع الجلّاد، ليغدو كلُّ ما في الهواءِ محضُ تعذيب؛ وانحدر المواطن في سوريا إلى شيء مُسخّر لخدمة نوازع شريرة منتظمة في كيان النظام الحاكم، الذي دأب على التبخيس من قيمة الناس ومعاملتهم كأشياء عقائدية أو كقرابين ضعيفة، لا يترتّب على التضحية بهم أية أزمة ذبائحية ـ بتعبير رينيه جيرارد ـ وبالتالي سنًّ النظام لنفسه ترخيصاً مفتوحاً لحصر الناس في أقسى الظروف، والتلذّذ بإخضاعهم كغنائم حرب.
ثمة في اللغةِ خَدر ثقيل أمام الإذلال المتنامي كجسدٍ رديف لكلّ من تبقى قسراً في سوريا، إذ يخيّم الخرسُ على تجربة الحياة اليومية العصيةُ على التجسيد بالكلمات. يشلُّ الكربُ العام قدرة الناس على حفظ الذات. لا ينقلب اليوم على ما يليه من دون الذهول من كيفية البقاء حتى اليوم التالي. تتجلّى أقسى الأوجاع في الشعور المخزي بالعجز أمام الكآبة التي يحملها الأبناء إلى الآباء. في الصيف يقول الطفل: اشتقتُ إلى الماء البارد. في الشتاء يسكت على النخز القارس في أطراف أصابعه البيضاء من دون تغذية كافية بالدم. ثم يأتي نداءُ وطن الميلشيات، ليأخذ حصته ممّا ظلّ من الأبناء، أولئك الجنود الذين يقتلون وتُنسى أشلاؤهم في الجبهات، لتبقى الوالدة منتظرة أمام الباب كمومياء فارغة، وتجهل أنها ليست ميتة.
كانت الأحكام العرفية وحالة الاستثناء قانوناً دائماً لنظام البعث الذي نجح في أن يكون نموذجاً للقوى التي زعمت أنّها تعارضه. فتناسخ المسخُ ذاته في الأقاليم التي تحلّلت إليها سوريا، كأرخبيلات معزولة لحكم ميلشيات الموت. فتراكمت طبقات من الحكم الفاسد، ليُحصر الناس بدوامة الاستبداد المركّب من مستويات منفتحة على بعضها البعض، إذ أينما هربت نازحاً داخل سوريا، سيراقبك الأخ الأكبر، سواء ملتحياً، أو بشوارب كثّة، أو بعنقٍ طويل.
بالرغم من الضيم المتراكم تاريخياً كورمٍ ثقيل في الروح، رفض السوريون أن تُختزل انتفاضتهم إلى أسباب اقتصادية، فظهرت فكرة الكرامة كمفصل جوهريّ لاستعادة الحقّ في الاحترام والمعاملة الإنسانية التي يستحقّها كلّ مواطن رفض أن يكون موالياً، وبالتالي تابعاً لسلطةٍ تحكم رقاب الناس بالإرهاب المنظّم في هيكل الدولة. تقول سيمون فايل في" التجذّر" بأنّ الكرامة حاجةٌ جوهرية لوجودنا، بدونها، نفقد المغزى من بقائنا. وهكذا، في البدء كانت الكرامة. قبل أن يجنّدها العسكر لمنفعة العقيدة.
انقلبت سوريا على ذاتها بالاحتراب الهمجيّ، وكشفت ما اختزناه من عنف ونوازع مناهضة للحرية، ناهيك بالتنشيط لأثر العزلة الداخلية بين المجموعات الأهليّة، ودورها في شحذ كراهية السوريين لبعضهم البعض؛ فظهرت وفرة في المرتزقة الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية بحق غيرهم من السوريين؛ وظهرت الأحزاب الشمولية التي تجاوزت أساليب البعثيين في استعباد الناس بالعقائد الحزبيّة، والابتهالات المجنونة لطقوس عبادة زعيم الحزب؛ ودمغت الفضاء العام بالحضور الوحيد لشوارب الأخ الأكبر، إذ لم يُخلع المسمار الذي كان يحمل صورة آل الأسد، بل حلّت محلّها صور الزعماء الجدد.
انقلبت فكرة الكرامة إلى نقيضها، وغدا وجود السوريّ مشروطاً بالذُلِ أينما حلّ في محيط بلده. رافقه تخصيصٌ لغويّ لعزل السوري جسدياً، في تصنيفٍ مطابق للإذلال الذي كابده وظلّ يكابده في ظلّ النظام الحاكم بأذرعته المدرّبة على طعن الناس في كرامتهم؛ فتماهى حالُ المُهجّرين قسراً إلى الجوار غير الآبه سوى بثقل السوريّ على اقتصاده، مع حال النّاس المقيّدين قسراً بالبقاء في سوريا التي لا مهرب منها سوى مخرج الموت.
كانت فكرة الكرامة محاولة لقلب سوريا بجعلها كالحُلم، وطناً لأناس مختلفين وقادرين على العيش معاً في فضاء من التقدير المتبادل.
لكنّها انتهت إلى طوابير محنّطة أمام النوافذ الحديدية للأفران المعطّلة، محطات الوقود الفارغة، صنابير الماء الجافة، المدارس المختلطة بالثكنات، المخيّمات الموزّعة على الأراضي الموحلة، الأدوية المستبدلة بالتمائم، والأطفال الذين يختزنون الجوع تمهيداً لتقديمهم إلى الميلشيات. ثم عبرتها جائحة كورنا بفضل التعاويذ، غير أنها حصدت ما تسنّى لها من أرواح من دون أيّ اعتبار لأرقام الموتى. فالسوريُّ حصيلةُ موتٍ من دون جرد، أو كما يقول بعض رجال السياسية، إن لم يمت ابنك بالقصف سيموت بحادث سيّارة. إنها مرحلة الثورة، وعلى الأحياء أن يخرسوا ويتهيّأوا لمتطلّبات الثورة، تلك التي تضيئها صور الزعامات وشعاراتهم التي تُحنّطُ في ظلّها جُثثُ القرابين.
إنّ زَخم المعاناة يجعل التعبير عنها ناقصاً، وإهانتها تتأتّى من ركاكة الخطاب الذي يتناولها كأحداثٍ عادية في مجرى أشياء أخرى. على الإعلام أن يترك شاشته سوداء لبعض الوقت حتى تأخذ الفاجعة مساحتها العاطفية في الوجدان.
المفارقة أن كلّ ما يحدث يجري في مرمى هتافات المشجّعين الذين زاروا دولاً مجاورة لسوريا. تلك التي تضخُ الطاقة إلى القارات الأخرى، وتكتفي بمنح السوريين البنادق والجهل المُعمِّق لحاجة السوري إلى افتراش موته بالاقتتال الأكثر فتكاً.
سرعان ما تبدّلت اللغة. صارت المفردات التي تصف حال السوري تنتمي إلى قاموس الأمراض الجلديّة والأورام، ناهيك بالعبارات التي جمعتها الشوارع لحصر السوري في قفص الحيّ الذي يقطنه، والقاموس الشفهي الذي خالط التعابير الدونية بالسخرية. وباتت لغة السياسة مجازاً في المرض بينما خرجت مفردات القانون من بنية الحقوق. عموماً، لم يعد العالم محكوماً سوى بالغطرسة النووية، والشعوب عبارة عن وسائط رديفة لإضفاء المتعة على حياة النظام.
حتى في الأدعيّة. بات الناس يتأملون موتاً خاطفاً على البقاء في حالة النزوع المستمر. وعلى غرار أحد الأدعية العراقية التي كان الناس يتوسلون بها الله بأن يمنحهم موتاً عادياً قبل أن يُقتلوا كأضرار جانبية في الشوارع المخططة بالمفخخات، بدأ السوري بتوسّل الموت بأن يكون خفيفاً وعاجلاً. تعتّق اليأس كرغبة في مقايضة ما تبقى من العمر لقاء أجلٍ أقرب. سنوات العمر متاحة للتبرع. أيُّ شيطانٍ بوسعه أن يُخلص الناس من مهانة الحياة اليومية، سيبرم العقد الذي يريده. وهكذا بدأت السمسرة في الازدهار. الجسدُ مجزأً بالقطعة؛ الكلى أو العين مقابل تأشيرة الخروج من الموت. أو الأجساد بالجملة على قوارب الموت. كلاهما يدرّان الأموال في جيوب المهرّبين.
بورتريه القسوة
على غرار عوامل الحتّ في الطبيعة، تحفر القسوة خصالها في الإنسان الخاضع لظروف الحرب والفساد. يأخذ غياب أو أدلجة التعليم دور الإزميل في نحت الميل إلى العنف والتطرّف. توفر المخيمات العزلة الكافية لتفكيك العُرى الاجتماعية وتوظيف ما ينتج عنها من حطام هويّاتي لشدّ خصالٍ متشنّجة بوجه المُهجرين؛ كتلقّي الإهانة في الدوائر الحكوميّة بغضبٍ لا يمكن تصريفه. لن نخرج أسوياء من دون اعترافٍ صريح باعتلال ما يؤسّس صفاتنا المتأتية من ضرورة النجاة بأيّ ثمن.
وككل حرب، ثمّة هندسة اجتماعيّة معادلة لمستوى الهمجيّة، التي يصل إليها العنف، تمثلها الهيكليّة القسريّة لتسنّم الأعنف سُلّم البقاء. في عفرين المحتلّة مثلاً، يُقاس الارتقاء في سلطة الفصائل الجهادية الحاكمة بالرذائل التي يرتكبونها بحقّ السكان الأصليين من الأكراد؛ وكذلك في تلك العودة المباركة لشخصيّة الواشي. فالوشاية جوهر سلطات الأمر الواقع لدى الأنظمة الحاكمة في الأقاليم السورية المتنابذة بشعاراتها، والمتماهية بجوهرها الهمجيّ المتسلّط.
الحصار في سوريا أشبه بلعبة الدمى الروسية، ينفتحُ الحصارُ على حصارٍ أكثر خناقاً. فالحدود المغلقة منذ عقوبات قيصر 2020، غذّتها عوامل أخرى للموت كقيام تركيا بقطع مصادر المياه عن محافظة الحسكة الجافة أساساً، ونهبها للقمح السوري بعد احتلالها لمدينة رأس العين 2019، ليظهر شيء شبيه بالخبز، يأكله الناس لأنه الشيء الوحيد المتبقّي كأثرٍ للخبز هناك. وبالتالي، تغيّرت أشكال التبادل بين الناس، وباتت البيئة الاجتماعية في منتهى التناقض. هناك مَن يداري آلامه بالتمائم والصبر، مبتكرا ما يمكنه أن يحوّل الجوع إلى شيء أقلّ أثراً؛ وهناك تجّار الحرب، عديمو الضمير، الذين يفترسون الناس بتحديثٍ همجيّ لآكلي لحوم البشر. فقد وفّرت المجاعةُ فائضاً في الذرائع لبقاء البلد محكوماً بأعراف القتلة.
كانت الجغرافيا هي الدلالة الوحيدة المتاحة للترميز إلى سوريا كشيء جامع لأشياء متعارضة، إذ لطالما كانت سوريا كوطن امتيازاً لفئة دون غيرها. لذلك لم تصبح هذه المساحة الجغرافية يوماً وطناً لجماعات مختلفة. وقد تحلّل البلدُ إلى سورياتٍ لا يجمعها سوى القمع كسمةٍ مشتركة لدى القوى الحاكمة، ناهيك بتفويض مآلُ سوريا لأكثر القوى استبداداً في العالم كروسيا المتجدّدة بدماء قيصرية، وتركيا المنبعثة من فكرة الميثاق الملّي العثمانيّ، وايران المترامية بثورتها المصدّرة منذ أربعة عقود بالقتل؛ هؤلاء هُم المخطّطون الديموقراطيون لسوريا المستقبل.
كيف يمكن لنظامٍ فاسد أن يقترح إصلاحاً لغيره؟ كيف يمكن لأنظمةٍ قمعيّة أن ترسم تحولاً ديموقراطياً لبلد متجذّر في الاستبداد مثل سوريا؟ لم تعد هذه الأسئلة تُشغل أحداً في سوريا، ولا في خارجها أيضاً، فقد قُضي الأمر. نبحث اليوم عن شيء آخر، أقلّ تكلفة في الدم، الخروج إلى الشارع بمعدةٍ صامتة، عدم خسارة ما تبقى من العائلة، العمل ببطء على نزع ركام الأمراض النفسية التي خلّفتها الحرب في عواطفنا، حسر الكراهية إلى حدودها المعقولة، بعض الدواء لأمراضنا الكثيرة؛ والتعليم، التعليم، التعليم لأطفالنا الذين نريدهم يدخلون مدارس لا تُدار كأنها ثكنات عقائديّة!
الجسد وأقوال القائد
الجسدُ أرشيفُ ما يكابده. يلتوي برفق على أوجاعه ليحيلها رُقماً في جلده. يُؤرشِفُ ما كان يكابده أو يبتهج له بكثافةٍ حسيّة تنحتُ السّمات التي تعدل تصنيفاتنا الاجتماعية وفقاً لتراتبية جسمانيّة، تختزل وتُهيكل بها مظهرنا، كنشرة تاريخيّة حيّة من الهيئات المخصّصة للأفراد والجماعات على حدٍّ سواء. وعلى غرار الضحك، يحفرُ كلُّ انفعال أثره في الخطوط المنتهية إليها أجسادنا. وهكذا، يغدو كلُ وجهٍ بصمة. فالهيئة التي نظهر بها تدمغ وجودنا بأسباب التصنيف التي تفرزنا إلى جماعات يمكن التخلّي عنها أو تسخيرها لإمتاع جماعاتٍ أخرى. شيء أشبه بأفكار كوجييف حول السيادة و العبودية، والتي كنتُ أعتقد أنها مجرّد خزعبلات، غير أنها تُترجم إلى واقع مجرّدةً من كلّ فضيلة أو أخلاق، والمكثفة في خدعة العبودية النشطة.
لذلك، لا يعكس مفهوم الجوار معنى التعايش، بل الإذعان. هذا واقع الحال في سوريا، وفي علاقتها بمحيطها الجغرافي. فقد أظهرت الحرب إمكانية الوجود بالقرب من مجموعات مجرّدة من المعنى، تعيش كشخصية الزومبي الفلسفيّة، تدّعي التألّم أو الإحساس بشيء خارجها، لكنّها لا تشعر، ليس لأنّها تكذب فقط، بل لأنها تخلو من فكرة الضمير. أي الإحساس الجوهري لمشاركة الوجود مع الآخر. كان هؤلاء أساس فكرة النظام الحاكم ومعارضيه في آن.
تمَّ تنقية العنف من الأسباب في سوريا. عنفُ المؤسسة العامة يُنطَقُ الإذلالُ حسيّاً بتصنيفٍ جسدي، ويعيد هيكلة المجتمع وفقاً لتراتبية العنف المصفى؛ عنف الميلشيات التي تلعب بالبنادق وتدير حركة المال بالرصاص المتبادل.
تُضبط في المدارس السورية أجساد أطفالنا على الخنوع والاستعداد للموت في سبيل القائد الأزعر؛ وفي المحاكم التي استبدلت القوانين بالاجتهادات القضائيّة، لتكون العدالة محض عبارة فارغة؛ وفي طوابير الخبز المزنجرة بترنّح أمهاتنا فجراً أمام النافذة الحديدية لبائع الخبز، لئلا يبقى أطفالك من دون خبز. بينما يمضي قمح أرضك لتغذية أولئك الذين ينهبونك بقوة الهيمنة.
لذلك كرّم القتلة بتنظيمهم في سلك النظام. كانت تلك حيلة صدام حسين مع ما كان يُعرف في بغداد بعصابات "الشقاوات" الذين انتظموا في سلكي المخابرات وفدائيي صدام، ليتحوّلوا بمجرّد سقوط حكم هذا الأخير إلى المؤسسين الأساسيين لتنظيم داعش وفقاً للسردية التي أظهرتها مجلة ديرشبيغل الألمانية في الوثائق التي عثروا عليها في داخل منزل حجي بكر الذي قتل بمدينة "تل رفعت" السورية سنة 2014.
تناول البعث السوري الراية ذاتها عبر أجهزته الأمنيّة. وبالتالي، بات الإجرام والتلذّذ به مشاعاً أينما حضرت مؤسّسات الدولة. اقتبست المؤسّسات بمختلف اختصاصاتها صفة الأمن، لتغدو ـ على غرار قراءة فوكو للسلطة العقابيّة في مؤلّفه المراقبة والمعاقبة ـ كلّ مؤسسة امتداداً لسلطة العقاب، المشفى مشابهاً للسجن، وهكذا دواليك مع المدرسة والمحاكم والجامعات، حيث بدأت هذه الأخيرة في فرض أقوال القائد كمنهاج قسريّ في جميع الاختصاصات. فالقائد كالإله يفهم كلّ شيء. وإن اقتضت الضرورة يمكنه أن يتحوّل إلى أنثى أيضاً. القائد هو شيءُ الأشياء، ومن دونه لا تستقيم حياة المريدين.
وقد توارثت القوى التي ظهرت في سوريا بعد 2011 التركة ذاتها؛ إكراه الناس على الارتباط باحتياجاتهم الأساسية كأنها هبات سماوية تتوسط هذه السُلط في توفيرها، ولتبدأ مقايضة الأمن والغذاء مقابل الولاء. فالهراوات ظلّت وحدها لغةٌ للحكم.