بعد أن ظل لسنوات نجما للمحطات الإذاعية والتلفزيونية المحلية، يجد الناقد الصحافي محمد بوغلاب، الذي يتميز بنبرة صوت عالية ونقد شرس، نفسه مضطرا للبقاء في البيت يلاحقه شبح البطالة من جراء ما يقول إنه "تعليمات عليا" أجبرت المحطات على رفض التعاقد معه بسبب انتقاده المتكرر للرئيس التونسي قيس سعيد.
اشتهر بوغلاب منذ سنوات بانتقاداته اللاذعة لشخصيات من مختلف الأطياف السياسية في برنامج إذاعي بشمس إف إم المملوكة للدولة وبظهوره المتكرر كمحلل تلفزيوني، مستفيدا من حرية التعبير التي ازدهرت بعد ثورة تونس في 2011.
لكن بفقدانه وظيفته منذ نهاية هذا الصيف، يخشى بوغلاب وصحافيون آخرون من أن خطرا حقيقيا يحدق بمكانة تونس كمنارة نادرة للصحافة الحرة، وهي أحد الإنجازات القليلة الواضحة للربيع العربي.
وتتهم نقابة الصحافيين التونسيين التلفزيون الرسمي بمنع سياسيين ونشطاء منتقدين للرئيس من المشاركة في برامجه ووضعهم على القائمة السوداء. وأصدر الرئيس الشهر الماضي قانونا يفرض عقوبات بالسجن على من يروج معلومات كاذبة على الإنترنت، في خطوة فجرت انتقادات جماعات حقوقية وصفت القانون بأنه انتكاسة شديدة.
وقال بوغلاب لرويترز متسائلا "كيف يمكن للرئيس أن يقول إنه يحمي الحريات عندما يتم تكميم الأفواه؟ كيف سيعرف ما يريده الناس منه حينها؟".
وأضاف بينما كان يستعد لتسجيل حلقة نقدية على يوتيوب "ماذا سيجنون من إسكات صوتي؟".
ويتهم معارضون سعيد بالقيام بانقلاب عبر السيطرة على سلطات واسعة الصيف الماضي وإغلاق البرلمان ليحكم بمراسيم قبل ان يقر التونسيون في استفتاء، قاطعته المعارضة، دستورا جديدا يعزز سلطات الرئيس.
لكن سعيد يرفض اتهامات بأنه تصرف بشكل غير قانوني أو كديكتاتور ويكرر باستمرار أنه سيحمي الحقوق والحريات التي فاز بها التونسيون في 2011، مشيرا إلى عدم وجود أي حملة قمع على المعارضين أو استهداف لحرية التعبير.
وتواصل وكالة الأنباء الرسمية بث تقارير حول مواضيع تتجاهلها وسائل الإعلام الحكومية في بقية الدول العربية الأخرى، بما في ذلك الاحتجاجات ضد الرئيس أو أنشطة المعارضة.
وتستمر بعض وسائل الإعلام الخاصة أيضا في بث انتقادات قوية مباشرة لسعيد، فضلا عن البرامج الساخرة التي تستهدفه وأنصاره، وتقول إنها ستستمر في ذلك.
ومع ذلك، يقول العديد من الصحافيين إنهم أصبحوا يواجهون الآن بيئة أكثر عدائية بكثير عندما يكتبون عن قضايا شائكة مثل نقص الغذاء في الآونة الأخيرة أو عند انتقاد سياسات سعيد بشكل مباشر.
تقول أميرة محمد، نائبة رئيس نقابة الصحافيين، إن حرية الصحافة في تونس تواجه الآن أكبر خطر لها منذ 2011، محذرة من أن النقابة مُستعدة للدعوة إلى احتجاجات وإضرابات بشأن هذه القضية.
طريق بديلة
في مكتب صديقه، على ملك، يستعد بوغلاب لتسجيل حلقة جديدة من برنامجه الناقد... يضع ستائر سوداء لتغطية النوافذ ويبعد علبة السجائر عن طاولة بسيطة لبدء التسجيل.
يقول بوغلاب "بعد ستة أعوام في شمس لم يتم تجديد عقدي وعندما طرقت أبواب إذاعات أخرى أخبروني أنه غير مرغوب فيا بتعليمات عليا".
ويضيف "صدر السلطة يضيق من النقد، وهناك تلفزيونات أعرفها طلبت من الصحافيين عدم ذكر اسم الرئيس بأي شكل".
وقالت المديرة العامة لشمس إف إم، تعليقا على إنهاء عقد بوغلاب رغم أن فقرته كانت تحقق نسبة استماع عالية، إنها لا يمكنها التعليق بخصوص المتعاقدين مع الإذاعة.
وظل بوغلاب طيلة السنوات الماضية مطلوبا بشدة من كل المحطات التلفزيونية والإذاعية. وبسب ذلك استقال من عمله الرئيسي في الإذاعة الرسمية ليعمل بحرية في وسائل الإعلام الخاصة.
وتميزت فقراته خلال مروره على التلفزيون الرسمي أو الحوار ونسمة والتاسعة أو شمس بنقد لاذع للحكام والمعارضة على حد سواء.
أصوات لا تخمد
رغم التضييقات التي يشكو منها الصحافيون في تونس، والتي قالت النقابة إنها تهدد أهم مكسب رئيسي منذ الثورة، ما زالت بعض المنابر تصدع بنقد لاذع للسلطة. وتميزت مواقع الكتيبة ونواة الإلكترونية بتحقيقات محرجة للسلطة.
ويمثل برنامج موزاييك شو في إذاعة موزاييك، واسعة الانتشار، في تونس نموذجا واضحا للصحافة المستقلة حيث يواصل صحافيون بارزون توجيه انتقادات شديدة لخيارات سعيد الاقتصادية والسياسية.
ويقول الصحافي الشهير إلياس الغربي مقدم البرنامج "ما يحصل هو أن البلد تغير ونحن لم نتغير... سنواصل عملنا في إطار حرية الصحافة وأخلاقيات المهنة... رغم هذا التغير، الكلمة ما زالت حرة وهناك مقاومة يومية لتبقى كذلك".
وتميز أحد أعضاء فريق البرنامج، هيثم المكي، بفقرة يومية ساخرة تتضمن نقدا لاذعا للرئيس وأنصاره وسياساته.
وقال هيثم المكي، بينما كان يستعد لبدء التسجيل المباشر، لرويترز "التهديدات موجودة بقوانين وسنوات السجن التي تهدد المخطئين.. بالنسبة لي أنا سأواصل العمل بنفس أسلوبي الساخر واللاذع... الذي يخاف عليه أن يبقى في بيته".
ولكن رغم مساحة الحرية، يشكو فريق البرنامج من أن الولوج للمعلومة أصبح اصعب بكثير من السابق حيث لم يعد بالإمكان استضافة الوزراء إلا نادرا لمسائلتهم.
ويضيف الغربي "السلطة اختارت أن تكون سلطة صامتة وهو خيار الرئيس... بعكس ما كان يحصل سابقا حيث كل الوزراء يحضرون بشكل دوري لمسائلتهم".
ويرى الفريق أنه رغم الموجة الشعبية المساندة للرئيس التي تدعو لترك الرئيس يعمل بحرية فانهم سيواصلون العمل بصوتهم المستقل والمهني.
وفي تونس لا يزال المجتمع المدني قويا ومقاوما لأي محاولات لاستهداف الحرية. وقال اتحاد الشغل، ذو النفوذ القوي، إنه لن يقبل تراجع الحريات أهم مكاسب الثورة.
وتقول أميرة محمد، عن نقابة الصحافيين، "لن نستسلم ولن يتم إسكاتنا. هذه أمانة دفع ثمنها شهداء الثورة".
وبينما يواجه بوغلاب شبح البطالة يقول إنه يرفض أن يتم التركيز على أنه "حالة اجتماعية بسبب فقدان العمل".
ويضيف "أنا أنشد الحرية ولن يكتم أحدا صوتي إلا عند موتي... وحتى إذا أغلقت منصة يوتيوب فقراتي سأصعد فوق سطح البيت لأوصل صوتي للناس".