في العام 2023، لا يزال العراق بعيداً عن "الديموقراطية الليبرالية" التي تحدّث عنها جورج بوش عندما أطاح بصدام حسين قبل 20 عاماً، فالنزاعات الدامية والفساد وعدم الاستقرار هيمنت على البلد الذي بات قريباً جدّاً اليوم من إيران التي تجاهر بعداء واضح تجاه واشنطن.
كان الهدف المعلن للإدارة الأميركية واضحاً، فالأوامر الموجهة الى القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي التي أرسلت إلى الصحراء العراقية في 20 آذار 2003 كانت مصادرة أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي يملكها نظام صدام حسين. لكن قوات مشاة البحرية الأميركية (مارينز) لم تعثر على أي أسلحة دمار شامل.
في المقابل، ما حصل هو الإطاحة وبلمح البصر بالدكتاتور الذي كان يهيمن على السلطة في العراق منذ العام 1979. وتعهّد بوش "بفرض ديموقراطية ليبرالية" كبديل عن النظام، وفق ما يشرح المحلّل سامويل هيلفونت لوكالة فرانس برس. لكن "الولايات المتحدة كانت تجهل كلّ شيء عن العراق".
ويتابع المحلل، وهو أستاذ مساعد في الاستراتيجية والسياسة في الكلية البحرية للدراسات العليا في كاليفورنيا، "لم يفهموا لا طبيعة المجتمع العراقي ولا طبيعة النظام الذي أطاحوا به".
في الواقع، فتح الغزو الباب أمام سلسلة من الأحداث الدامية: هجوم في 22 شباط 2006 ضد مرقد شيعي في سامراء (شمال بغداد) كان الشرارة في اندلاع حرب طائفية ووقوع أعمال عنف غير مسبوقة استمرّت حتى العام 2008.
ومنذ العام 2003 وحتى العام 2011، تاريخ انسحاب القوات الأميركية من العراق، قتل أكثر من 100 ألف مدني عراقي، وفق منظمة "ضحايا حرب العراق". في المقابل، فقدت الولايات المتحدة قرابة 4500 عنصر في العراق.
لكن الصدمة الكبيرة والأخيرة التي تعرّض لها العراق، كانت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق واسعة من البلاد في صيف العام 2014 شملت نحو ثلث مساحة العراق، وانتهت أواخر العام 2017 عندما أعلنت بغداد "الانتصار" العسكري على التنظيم المتطرّف بعد معارك ضارية ودعم من تحالف دولي بقيادة واشنطن.
"على طريق الديموقراطية"
وأفرزت أحداث العنف خلال العقدين الماضيين، تغييراً عميقاً في المجتمع العراقي الذي يتميز بتنوعه العرقي والمذهبي الكبير.
فقد تراجعت أعداد المسيحيين في البلاد بسبب تعرّض هذه الأقلية لهجمات خلال الحرب الطائفية، وانتهاكات على أيدي عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، ما أنتج موجاتٍ متتالية من الهجرة.
أما الأيزيديون، وهم أقلية يعود تاريخها لعدة قرون ويعتنقون ديانة توحيدية باطنية، فقد كانوا ضحايا جرائم ارتكبها تنظيم "الدولة الإسلامية" وصنّفها محقّقون في الأمم المتحدة على أنها إبادة جماعية.
بالنتيجة، أصبح العراق يعيش حالة فوضى بعدما كان يعيش حالة حرب.
توترت العلاقات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي ويسعى للمزيد من الصلاحيات، خصوصاً بشأن ملفّ صادرات النفط التي تخرج من الإقليم.
وأواخر العام 2019، شهدت مناطق عديدة في البلاد لكن خصوصاً العاصمة بغداد، احتجاجات واسعة غير مسبوقة، تنديداً بـالفساد و"سوء الإدارة" و"التدخّل" الإيراني في شؤون العراق.
أعقبت التظاهرات التي تعرّضت لقمع شديد، انتخابات تشريعية مبكرة في تشرين الأول 2021، وتطلّب الأمر من الأحزاب السياسية الغارقة في ممارسات الفساد والتحاصص، عاماً كاملاً قبل الاتفاق على اسم رئيس جديد للوزراء، بعد مواجهات دامية بين فصائل مسلحة شيعية.
اليوم، يؤكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في حديث لوكالة فرانس برس أنه يريد معالجة الفساد "وفقا للسياقات القانونية"، في بلد تهيمن هذه الآفة على أغلب مؤسساته ويحتل المرتبة 157 من بين 180 دولة من أكثر الدول فسادا في العالم، وفقا لمنظمة الشفافية الدولية.
لكن هذه مهمة صعبة، لأنّ "الفساد متجذّر في العراق"، وفقا للخبير السياسي الكندي العراقي حمزة حداد.
ويقول حداد: "نحن نتحدث عن الذكرى العشرين (للاجتياح)، لكن أي عراقي سيقول لك بأنّ الفساد بدأ بالازدهار في زمن العقوبات" الدولية التي فرضت على نظام صدام حسين في تسعينات القرن الماضي".
بالإضافة إلى ذلك، يعاني البلد على الرغم من احتياطاته النفطية الهائلة من بنى تحتية متهالكة تنعكس انقطاعا في التيار الكهربائي لساعات طويلة كل يوم وغياب شبكات توزيع المياه الصالحة للشرب، وانتشار الفقر الذي يضرب ثلث سكان العراق البالغ عددهم 42 مليوناً.
لكن العراق، وفق حمزة حداد، "دولة في طور التحول الديموقراطي. يميل الناس إلى نسيان بأن عشرين سنة تعدّ فترة قصيرة جداً من عمر الدولة".
"توازن"
حالياً في العراق حيث ينتمي غالبية السكان إلى المذهب الشيعي، "لا تزال الأحزاب السياسية الشيعية أقوى اللاعبين" على الساحة السياسية، وفق الباحث في معهد واشنطن للأبحاث حمدي مالك.
ويضيف بأنّه على الرغم من خلافاتها، فإنّ "التيارات الشيعية المدعومة من إيران تمكّنت من المحافظة على تماسك معيّن" للحفاظ على علاقاتها، إلا أن طهران "تلعب دوراً حاسماً لضمان بقاء هذا التماسك".
فبعد حرب دامية مع العراق في الثمانينات، أصبحت إيران أقرب حليف للعراق بعد 2003.
إضافة إلى العلاقات التجارية بين البلدين واعتماد العراق على الغاز الإيراني، يضمّ العراق أكثر من 150 ألف مقاتل من الحشد الشعبي، فصائل مسلحة موالية لإيران أدمجت بالقوات الأمنية الحكومية.
ومع هيمنة أحزاب شيعية متحالفة معها على البرلمان وأمام واقع أن حكومة السوداني منبثقة من هذه الغالبية البرلمانية، تعزز إيران أكثر فأكثر دورها في العراق.
في هذا الإطار، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كانون الأول ، العراق إلى اتباع مسار آخر بعيد "عن نموذج يملى من الخارج"، دون الإشارة بالاسم إلى إيران.
وأعرب ديبلوماسي غربي في بغداد، مفضّلاً عدم كشف اسمه، عن تفاؤله بتوجهات رئيس الوزراء، بالقول إنّه "يحاول تحقيق توازن في علاقاته مع إيران وجيرانه السنة والغرب"، معتبراً ذلك "مهمةً شديدة الحساسية".