احتدمت المعارك في العاصمة السودانية حتى وقت مبكر الأحد بعد يوم من المواجهات العنيفة بين قوات الجيش التي يقودها الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات "الدعم السريع" شبه العسكرية الموالية لحليفه السابق محمد حمدان دقلو، ما أسفر وفق نقابة الأطباء السودانية عن مقتل 56 شخصاً وإصابة المئات.
وأفاد شهود عن سماع إطلاق نار ودوي انفجارات في شوارع الخرطوم المقفرّة في أعقاب إعلان قوات "الدعم السريع" عن سيطرتها على المقر الرئاسي ومطار الخرطوم ومنشآت حيوية أخرى.
لكن الجيش سارع إلى نفي هذه المزاعم، وفي بيان صدر في وقت متأخّر السبت، حذّرت القوات الجوية السودانية المواطنين بضرورة التزام منازلهم مع استمرار الغارات الجوية ضد قواعد قوات "الدعم السريع".
وعقدت الجامعة العربية اجتماعاً على مستوى المندوبين، بحثت فيه المستجدات الحاصلة في السودان، وقال مندوب مصر إن "القاهرة تدعو طرفي الصراع في السودان لضمان سلامة كافة المصالح المصرية هناك".
وقال السفير محمد مصطفى عرفي "تؤكد جمهورية مصر العربية محورية الحفاظ على أمن وسلامة كافة المصالح المصرية في السودان... وتشدد على مسؤولية جمهورية السودان وأجهزتها المعنية في ضمان أمن وسلامة المصالح ذات الصلة".
وفي السياق نفسه، أعلنت الرئاسة المصرية أن "مصر وجنوب السودان يعرضان الوساطة بين الأطراف السودانية".
من جهته، أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، السبت، أنّه تشاور مع وزيرَي خارجية السعودية والإمارات بشأن الاشتباكات في السودان.
وقال بلينكن، في بيان، إنّهم اتفقوا على ضرورة إنهاء أطراف الاشتباكات الأعمال القتالية على الفور من دون أي شروط مسبقة.
وقال قال مسؤول بوزارة الخارجية الأميركية إنّ الولايات المتحدة تشعر بقلق عميق إزاء المستويات العالية من العنف في السودان الذي راح ضحيته العشرات، فيما تواصل وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع الدول لها تأثير هناك من أجل وقف القتال.
وقال المسؤول بينما كان في طريقه إلى طوكيو حيث سيحضر بلينكن اجتماعاً مع وزراء خارجية مجموعة السبع يبدأ اليوم: "يبدو أن بعض هذه الهجمات استخدمت فيها أسلحة خطيرة".
وأضاف: "مبعث قلقنا الأساسي هو سلامة أفرادنا وكذلك المواطنين الأميركيين هناك".
بدورها، أعربت الصين عن "قلقها للغاية" بشأن التطورات في السودان، وحضّت وزارة الخارجية طرفَي الصراع على وقف إطلاق النار للحيلولة دون تفاقم الوضع.
ونقل الإعلام الصيني الرسمي عن السفارة الصينية في السودان قولها إنّها لم تتلقَّ أي تقارير عن سقوط ضحايا صينيين بالسودان، وذكّرت رعاياها في البلاد بالحفاظ على سلامتهم.
ارتفاع حصيلة الضحايا
ارتفعت حصيلة قتلى الاشتباكات المستمرة في السودان بين الجيش النظامي والقوات شبه العسكرية إلى 56 قتيلاً مدنيّاً، وفق ما أعلنت نقابة الأطباء الأحد.
وقالت النقابة إنّ "العدد الاجمالي للقتلى بين المدنيين بلغ 56 قتيلاً". كما تحدّثت عن "عشرات القتلى" في صفوف قوات الأمن لكن لا تشملهم حصيلة القتلى هذه.
وأحصت النقابة نحو 600 جريح بينهم عدد من أفراد قوات الأمن. وقالت إنّ عدداً كبيراً من الجرحى لم يتم نقلهم إلى المستشفيات بسبب صعوبات في التنقل أثناء الاشتباكات.
وفي وقت سابق، شوهدت طائرات مقاتلة سودانية تُحلّق في الأجواء. وقال مراسلو "فرانس برس" إنّ المباني والنوافذ اهتزت في مناطق عدة من الخرطوم خلال المعارك، كما سُمعت أصوات انفجارات في وقت مبكر الأحد.
في تصريحات لقناة "الجزيرة"، أكد دقلو المعروف باسم حميدتي أنّ قواته "لن تتوقف" إلّا بعد "السيطرة الكاملة على كل مواقع الجيش". وشدّد على أنه لا يمكنه التكهن بموعد توقف القتال. وقال: "لا أستطيع أن أحدّد (متى تنتهي المعارك)، فالحرب كرّ وفر".
من جهته قال الفريق أول البرهان في تصريحات منفصلة لقناة "الجزيرة"، إنّه "فوجئ في التاسعة صباحاً" بحصار مقر قيادته من قبل قوات حميدتي حليفه السابق الذي يصفه اليوم بأنه "يقود ميليشيا مدعومة من الخارج".
ومساءً أكد حميدتي، في تصريحات هاتفية لقناة "سكاي نيوز عربية"، أنّه سيستمر في القتال الى أن "يستسلم البرهان المجرم"، مضيفاً أنّ قواته ستلقي القبض عليه خلال الأيام المقبلة.
وبدا أن المفاوضات التي كانت تجري بين الطرفين، بوساطة من أطراف عدة، انتهت الى نزاع مسلّح مفتوح. وحشد البرهان طائراته الحربية من أجل "تدمير" معسكرات قوات "الدعم السريع" في الخرطوم، في حين هاجم حميدتي قائد الجيش ولم يتردّد في وصفه بـ"المجرم" الذي "يدمّر البلاد".
واستيقظ 45 مليون سوداني، يصوم معظمهم العشر الأواخر من رمضان، على أصوات الأسلحة الثقيلة والخفيفة والانفجارات في الخرطوم وعدة مدن أخرى.
وتدور المواجهات الآن بين الفريقين حول مبنى وسائل الاعلام التابعة للدولة في أم درمان بهدف السيطرة عليها، فيما انقطع ارسال التلفزيون بعد أن ظل ضعيفاً لبعض الوقت.
وفي الضاحية نفسها، تعرض صحافي من قناة "بي بي سي" الناطقة بالعربية إلى اعتداء من أحد العسكريين، وفق ما أفادت المحطة.
إلى ذلك، طالبت الأمم المتحدة والجامعة العربية وواشنطن وموسكو بوقف "فوري" للقتال في السودان. أما الجارة القوية مصر فدعت الطرفين الى "التحلي بأكبر قدر من ضبط النفس".
وقال بيان للأمم المتحدة أنّ الأمين العام أنطونيو غوتيريس "تشاور مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس مفوضية الاتحاد الافريقي موسى فقي بشأن تهدئة الوضع"، مضيفاً أنّ مشاوراته شملت البرهان ودقلو.
ودعا الأمين العام، وفق البيان، إلى "الوقف الفوري للعنف والعودة إلى الحوار".
أما فرنسا، فاعتبرت أنّ "وحدها العودة إلى عملية سياسية تجمع كل الأطراف وتقود إلى تعيين حكومة انتقالية وإجراء انتخابات عامة، يمكنها إيجاد تسوية دائمة لهذه الأزمة".
ومن المقرر أن تعقد جامعة الدول العربية بناء على طلب مصر والسعودية اجتماعاً عاجلاً اليوم لمناقشة الأوضاع في السودان.
وكانت قوات "الدعم السريع" قد أكدت، قبيل ظهر السبت، "السيطرة الكاملة" على القصر الجمهوري في وسط الخرطوم وقصر الضيافة الذي يستقبل فيه كبار ضيوف الدولة ومطار الخرطوم ومطاري مروي (شمال) والأبيض (وسط)، فيما نفي الجيش السيطرة على المطار مؤكداً أنّ "عناصر من الدعم السريع تسللت الى المطار وأحرقت طائرتين إحداها تابعة للخطوط السعودية" التي أكدت وقوع هذا الحادث.
"في مكان آمن"
ولزم السودانيون بيوتهم للاحتماء من القتال. وأكد السفير الأميركي في السودان جون غودفري عبر "تويتر" أنّه "مثله مثل كل السودانيين في مكان آمن" بعيداً من المعارك.
كانت قوات الدعم السريع بادرت بالاعلان في بيان أن القوات المسلحة "هاجمت في وقت متزامن قواعد ومقرات قوات الدعم السريع في الخرطوم ومروي ومدن أخرى جاري حصرها"، مؤكدة أنّ "قوات الدعم السريع قامت بالدفاع عن نفسها والرد على القوات المعادية وكبدتها خسائر كبيرة".
وأكد البيان أن قوات الدعم السريع تقف إلى جانب "جميع المواطنين وستواصل جهودها من أجل حماية مكتسبات الوطن وثورة شعبه المجيدة الظافرة المنتصرة" في اشارة إلى ثورة 2019 التي أطاحت الديكتاتور عمر البشير بعد ثلاثين عاماً في السلطة.
اتهامات متبادلة
تبادلت قوات "الدعم السريع" والجيش السوداني الاتهامات بالمبادرة بالقتال.
وأكدت قوات "الدعم السريع"، في بيان، أنّها "تفاجأت صباح اليوم السبت بقوة كبيرة من القوات المسلحة تدخل الى مقر تواجد القوات (التابعة للدعم السريع) في أرض المعسكرات سوبا بالخرطوم وتضرب حصارًا على القوات المتواجدة هناك ثم تنهال عليها بهجوم كاسح بكافة انواع الاسلحة".
من جانبه، قال الناطق باسم الجيش العميد نبيل عبد الله لـ:فرانس برس": "هاجم مقاتلون من قوات الدعم السريع عدة معسكرات للجيش في الخرطوم ومناطق متفرقة في السودان". وأضاف أنّ "الاشتباكات مستمرة والجيش يؤدي واجبه في حماية البلاد".
قوات مصرية
وأعلن المتحدث الرسمي باسم الجيش المصري مساء السبت على "فايسبوك" أنّ "قوات مصرية متواجدة" داخل السودان "لإجراء تدريبات مشتركة مع نظرائهم السودانيين"، مؤكداً أنّه "جاري التنسيق مع الجهات المعنية في السودان لضمان تأمين القوات المصرية".
ونشرت قوات "الدعم السريع" مقطع فيديو على حسابها الرسمي عبر "تويتر" يظهر فيه جنود مصريون وأكدت أن "كتيبة من الجيش المصري سلّمت نفسها لقوات الدعم السريع في مروي".
وقال دقلو لـ"سكاي نيوز عربية" إنّ "القوات المصرية في مروي في أمان وإنه "سيتم تسليمها" الى مصر.
وكانت وزارة الخارجية المصرية دعت صباحاً "كافة الأطراف السودانية بممارسة أقصى درجات ضبط النفس حماية لأرواح ومقدرات الشعب السوداني الشقيق".
وكان البرهان وحميدتي يُشكّلان جبهة واحدة عندما نفذا الانقلاب على الحكومة في 25 تشرين الأول 2021. إلا أن الصراع بينهما ظهر الى العلن خلال الشهور الأخيرة وأخذ في التصاعد.
وقبل يومين، حذر الجيش السوداني، في بيان، من أنّ البلاد تمر بـ"منعطف خطير" بعد انتشار قوات الدعم السريع المسلحة في الخرطوم والمدن الرئيسية.
وياتي اندلاع هذا النزاع المسلح فيما يشهد السودان انسدادا سياسيا بسبب الصراع بين الجنرالين.
فمطلع الشهر الحالي، تأجل مرتين التوقيع على اتفاق بين العسكريين والمدنيين لانهاء الأزمة التي تعيشها البلاد منذ انقلاب بسبب خلافات حول شروط دمج قوات الدعم السريع في الجيش وهو بند اساسي في اتفاق السلام الذي تم التوصل اليه.
وكان يفترض أن يسمح هذا الاتفاق بتشكيل حكومة مدنية وهو شرط اساسي لعودة المساعدات الدولية الى السودان، أحد أفقر بلدان العالم.
وتشكّلت قوات "الدعم السريع" في 2013 وانبثقت عن ميليشيا الجنجويد التي اعتمد عليها البشير لقمع التمرد في إقليم دارفور.