النهار

"حدائق معلقة" في دجبة التونسية تواجه شحّ المياه بنظام زراعي فريد
المصدر: "النهار"
"حدائق معلقة" في دجبة التونسية تواجه شحّ المياه بنظام زراعي فريد
زراعات وأشجار مثمرة في دجبة التونسية (أ ف ب).
A+   A-
على ارتفاع 700 متر عن سطح البحر في شمال غرب تونس، تنتشر في بلدة دْجِبَّة الجبليّة آلاف أشجار التين في "حدائق معلّقة" مدرجة ضمن نظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية وتعد نموذجاً "قادرا على الصمود" في ظل شحّ المياه الذي تعانيه البلاد والمنطقة.

بفضل "نظامها الزراعي الفريد" وفق وصف منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)، تحافظ دجبة على خضرتها رغم تضاؤل سقوط الأمطار وارتفاع الحرارة.

وكان تموز 2022 الأشد حرارة في تونس منذ 1950، وفق المعهد الوطني للرصد الجوي. ولم تتجاوز نسبة امتلاء سدود البلاد 34 في المئة في نهاية آب الماضي، وفق معطيات وزارة الزراعة.
 
 
في أعلى الجبل حيث يقام "مهرجان التين" السنوي في تموز، تشرح الناشطة المحليّة فريدة دجبّي (65 عاما) ثراء الحدائق التي تتضمن "التين وإلى جانبه أشجار أخرى مثل السفرجل والزيتون والرمان وتزرع تحتها مجموعة واسعة من الخضروات والبقوليات".

وتسقى الحدائق بالماء الذي يتدفق من منابع في أعلى الجبل إلى قنوات تقليدية تمتد عبر المزارع، ويتداول المزارعون الريّ عبر فتح القنوات وغلقها لساعات محدّدة بموجب نظام تقاسم يقوم على حجم كل حديقة وعدد أشجارها.

وتبرز خصوصية المنطقة في قسمها الشاهق الذي يمتد على نحو 300 هكتار، أي في دْجِبَّة العليا التي أدرجتها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) عام 2020 على لائحة نظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية والتي تشمل 67 نظاماً من 22 بلدا.

في المنحدرات، توجد "الحدائق المعلقة" المثبّتة بمدرجات تشكّلت طبيعيا أو بناها المزارعون من الأحجار الجافة وهي تفصل بين الحدائق وتعد "مثالاً على الزراعة الحرجية المبتكرة"، وفق تقرير للفاو صدر اثر إدراجها المنطقة على لائحتها.

ويشير تقرير مطوّل حول المنطقة وضعه خبراء عام 2020 بدعم من الفاو ووزارة البيئة التونسية إلى أن إنشاء الحدائق "تطلّب جهدا كبيرا" من أجل "ترويض الطبيعة القاسية" بسبب "التضاريس غير المستوية والتربة الصخرية غير العميقة".

وتضيف الوكالة الأممية أن في المنطقة الجبليّة "مناخاً مصغرا خاصا بها" من ملامحه "نظام ريّ فعال" و"تعدد الأنواع في طبقة الأشجار في الحدائق"، إضافة إلى التكامل مع الغابات المجاورة الذي يتيح وجود "ملقحات برية" مهمة في "الحد من استخدام المدخلات الكيميائية".

ويشمل النظام البيئي نباتات بريّة مثل إكليل الجبل والزعتر والنعناع تنمو على أطراف المزارع، وهي تمثل وفق الفاو "عناصر طرد للحشرات الضارة وتوفر حماية طبيعية للمزروعات"، فضلا عن حيوانات مثل الأبقار والغنم والدجاج التي تساهم في حرث الأرض وتسميدها لإبقائها خصبة.
 
 
وتشير دجبي إلى نبعي ماء في أعلى الجبل يفصل بينهما مجرى يحمل الأمطار شتاء بين الحدائق وصولاً إلى بحيرة جبليّة تتراءى في الأفق، وتوضح أن نبعاً يتدفق من شرق المنطقة والثاني غربها لسقاية نحو 25 ألف شجرة تين (أو كرموس في اللهجات المغاربيّة) تمتد على مساحة تناهز 900 هكتار تمتد من مرتفعات "جبل القُرَّاعة" إلى سفحه شديد الانحدار.

لكن المنطقة ليست بمنأى كليا عن الظروف المناخية، إذ يشير الناشط المحلي توفيق الراجحي (60 عاما) إلى انحسار منسوب المياه المتدفقة من خمسة ينابيع جبليّة في الأعوام الأخيرة، ما يشكل تهديداً للنظام الزراعي.

ويوضح الراجحي أن شحّ المياه لا يهدد "المنطقة العليا القريبة من منابع الماء" بل الحدائق التي تقع أسفل المرتفعات والتي تبدو الأغصان على بعض أشجارها مصفرّة.

ويرى الأستاذ في مدرسة محليّة أن ذلك يعود أساسا إلى "تغيّر المناخ وضعف تساقط الأمطار"، لكنه يرجعه أيضا إلى النزوع نحو الزراعة التجارية عبر تكثيف غرس التين على حساب أصناف أخرى أقل استهلاكا للماء "بسبب ارتفاع مردوده المالي في الأعوام الأخيرة".

تراجع منسوب المياه وآثاره لا يمنع مزارعي دجبّة من التباهي بخصوصية منطقتهم.

وتقول الطالبة الجامعية شيماء الراجحي (20 عاما) التي وضعت قفازاً يحمي يدها أثناء جني ثمار مزرعتها العائليّة الصغيرة، إن التين أكثر من مجرد فاكهة في دجبّة إذ "نولد هنا بين أشجار التين ونكبر معها، ونتعلم الاعتناء بها منذ الصغر".

وتسعى فريدة دجبّي من جهتها إلى "تثمين الممارسات التقليدية" التي راكمتها نساء المنطقة في تحويل المنتجات الزراعية.

وتعمل الناشطة مع عشر نساء أخريات في تعاونية "كنوز دجبّة" التي توحّد جهودهن في تقطير الزهور البريّة وتجفيف التين وصناعة المربى منه ومن التوت البري. وتؤكد أن منتجاتهن المحليّة التي تعلمن صناعتها من أمهاتهن وجداتهن تلقى "رواجا متزايدا لجودتها".


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium