دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الجمعة، في اليوم الثاني من زيارته للجزائر، إلى "العمل معًا" مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون ليكون من أجل "أكثر فاعلية" في محاربة الهجرة غير القانونية، وفي الوقت ذاته "أكثر مرونة" بشأن الهجرة "الانتقائية".
ويزور الرئيس الفرنسي الجزائر في رحلة تستغرق ثلاثة أيام، هدفها "إعادة بناء" العلاقات الثنائية بين البلدين وطيّ صفحة الخلافات التي لا تزال مثقلة بأعباء الماضي، تزامناً مع الذكرى الستين لانتهاء الحرب وإعلان استقلال الجزائر عام 1962.
وخلال زيارة مقبرة سانت أوجين الأوروبية، المقبرة الرئيسية في العاصمة الجزائرية أثناء الاستعمار الفرنسي، وضع ماكرون إكليلا من الزهور تكريما للجنود الذين "سقطوا من أجل فرنسا"، على أنغام النشيد الوطني الفرنسي.
وأمام بوابة المقبرة تطرق للعديد من المواضيع أمام الصحافة، لا سيما ملف الذاكرة الحساس الذي اثار أزمة ديبلوماسية خطيرة مع الجزائر الخريف الماضي.
وقال "ما قررناه هو العمل معاً، وفي مناخ من الثقة الجماعية (...). سنكون صارمين للغاية لكي نكافح معًا الهجرة غير الشرعية والشبكات (الإجرامية) وسنكون أكثر فاعلية بكثير في استباق (الهجرة غير الشرعية) وكي نتمكن من مرافقة (المهاجرين غير الشرعيين) بشكل أكثر فاعلية ".
وأضاف "نودّ اعتماد مقاربة أكثر مرونة بكثير للهجرة الانتقائية، أي أسر مزدوجي الجنسية، إنما كذلك الفنانين والرياضيين ورجال الأعمال والسياسيين الذين يغذون العلاقات الثنائية".
وأوضح أنه "في هذا السياق ، نود أن نكون قادرين على تحسين قضية المواعيد" للحصول على تأشيرات الدخول و"إذا قمنا بتبسيط الإجراءات قليلاً، (سيتيح ذلك) الحصول على وضوح أسرع وتجنب تكبد الكثير من التكاليف".
وأقرّ الرئيس الفرنسي بأن مسألة التأشيرات من المواضيع "الحساسة" ومصدر "توتر" بين البلدين.
وأشار إلى انه خلال اللقاء مع الرئيس تبون "تحدثنا مطولاً حول هذا الملف، حتى منتصف الليل" و"كلفنا به وزراءنا، وبالتالي سيتقدم في الأسابيع والأشهر المقبلة".
واعتبر أن هذا الملف يتطلب "احتراسا" و "انضباطا" و"دقّة من الجانبين" لتجنب "سوء التفاهم".
وخفضت باريس بنسبة 50% عدد التأشيرات الممنوحة للجزائر وكذلك المغرب، في سياق الضغط على حكومات تعتبر غير متعاونة في إعادة قبول مواطنيها المطرودين من فرنسا.
وبعدما طُلب من ماكرون قبل زيارته الجزائر "عدم التغاضي" عن "انتهاك حقوق الإنسان في البلاد"، أكد أنه تطرق إلى الموضوع مع الرئيس تبون "بقدر كبير من الحرية".
وقال إنه تحدث عن "حالات نعرفها" ودعا تبون إلى "الشفافية والحريات السياسية واحترامها"، موضحا "أعلم أنه يتجاوب مع (هذه المسائل) وانه متمسك بذلك. وستتم تسوية هذه القضايا مع الاحترام الكامل للسيادة الجزائرية".
- الحقيقة -
كذلك، دعا ماكرون الجمعة للنظر إلى ماضي فرنسا الاستعماري "بشجاعة" والبحث عن "الحقيقة" بدلاً من "الندم"، بشأن المسائل المرتبطة باستعمار الجزائر التي تسبب خلافات متكررة بين البلدين.
وهذه هي المرة الثانية التي يزور فيها إيمانويل ماكرون الجزائر منذ توليه الرئاسة، بعد زيارته الأولى في كانون الأول 2017.
وكانت العلاقات الثنائية في ذلك الوقت مع الرئيس الفرنسي الشاب المولود بعد عام 1962 والذي وصف قبل انتخابه الاستعمار الفرنسي بأنه "جريمة ضد الإنسانية".
لكن العلاقات تدهورت بسرعة بسبب ذاكرات يصعب التوفيق بينها بعد 132 عاما من الاستعمار وحرب طاحنة ورحيل مليون فرنسي من الجزائر في 1962.
والجمعة عاد للقول "في ما يتعلق بمسألة الذاكرة والمسألة الفرنسية الجزائرية، كثيرا ما أسمع دعوات إلى الاختيار بين الفخر والندم"، مؤكدا "أنني أريد الحقيقة والاعتراف وإلا لن نمضي قدما أبدا"، مشيرا إلى ان الأمر أسهل بالنسبة إلى الجيل الجديد الذي ينتمي هو إليه والذي ليس "من ابناء حرب الجزائر".
وأكد أن "علينا أن ننظر إلى هذا التاريخ بشجاعة ووضوح وصدق".
وأوضح أن هذا هو هدف لجنة المؤرخين الفرنسية الجزائرية حول فترة الاستعمار وحرب الجزائر، التي أعلن إنشاؤها بعد محادثات مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
وتابع "هذا ليس ندما أبدا"، مستبقا انتقادات أصحاب الحنين إلى "الجزائر الفرنسية" ومستبعدا في الوقت نفسه تقديم أي اعتذار كما تطالب الجزائر.
وأشار ماكرون إلى أن اللجنة ستنظر في "المراحل الأولى للاستعمار بقسوتها ووحشية هذه الأحداث" وكذلك حول "المفقودين".
وتطالب الجزائر منذ وقت طويل بفتح ملف الذاكرة وكشف الصفحات السوداء لـ 132 عاما من الاستعمار الفرنسي وليس سنوات حرب الاستقلال السبعة (1954-1962) فحسب.
كما يبقى ملف المفقودين الجزائريين والأوروبيين خلال الحرب من التساؤلات العالقة لدى أُسر الضحايا على ضفتي البحر المتوسط.
وستتشكل هذه اللجنة من خمسة إلى ستة مؤرخين من كل جانب، مع "عقد أول اجتماع عمل ربما في غضون عام، ثم سنقوم بعد ذلك بمبادرات مشتركة" ، على ما أوضح ماكرون.
وتابع "سنفتح لهم كل الأرشيف (...) وقال لي الرئيس الجزائري: سأفتح أرشيفي أيضا".
وأوضح ماكرون أن العلاقة بين فرنسا والجزائر "قصة حب لها نصيبها من المأساة"، في إجابته عن سؤال عن الأزمة الديبلوماسية التي سببتها تصريحاته حول استخدام الجزائر للذاكرة "كريع" للنظام "السياسي العسكري الجزائري" وحول الأمة الجزائرية.
وقال "يجب أن نختلف لكي نتصالح"، مشيرا إلى أهمية عمل الذاكرة لتمكين البلدين من المضي قدمًا.
واوضح انه "لا يمكن لفرنسا أن تمضي قدما من دون التقدّم في هذا الموضوع والجزائر كذلك (...) الأمر يشبه تحليلا نفسيا في حياة الأمم".
وأكد أنه بعد الحروب هناك دائما فترة "نسيان" لكن "في العقود الأخيرة، شهدنا عودة المكبوتات" و"النقمة" و "نخيّلات حول التاريخ".
- ستكون أمرا جيدا -
كذلك، اعتبر ماكرون أن مباراة وديّة في كرة القدم بين منتخبي "الديوك" و"محاربي الصحراء"، "ستكون أمراً جيداً لتجاوز الماضي".
ورداً على سؤال عن إمكانية إقامة مباراة ودية بين منتخبي البلدين، قال ماكرون "أعتقد أنه سيكون شيئًا جيدًا لتجاوز الماضي"، خصوصاً وأن المباراة الأخيرة التي جمعت المنتخبين كانت قبل أكثر من 20 عاماً وتحديداً في 6 تشرين الأول 2001، وانتهت باقتحام الجماهير الجزائرية للملعب قبل ربع ساعة من صافرة النهاية.
وأضاف الرئيس الفرنسي أنه "من الواضح أننا سنتحدث عن ذلك مع الرئيس (عبد المجيد تبون) وفريقه، فلست أنا من يقرّر، وكذلك سيعتمد الأمر أيضاً على ما تسمح به المنافسات (الرياضية) المقبلة، بالنسبة للبعض، أتمنى لنا ذلك".
وتابع "أعتقد أن الرياضة يجب أن تُصالح، ولهذا السبب سأكون غداً في وهران مع رياضيينا تحسباً لدورة الألعاب الأولمبية 2024 التي تنظم في باريس".
وأكد ماكرون أن "الثقافة، كما ذكرت يوم أمس في المؤتمر الصحافي، والرياضة، هما مجالان يجب أن نكون (نحن والجزائر) فيهما معًا، لذلك في بعض الأحيان يمكننا التنافس، لكننا نتنافس بطريقة ودية".
- الى الشباب الأفريقيين -
كذلك، دعا ماكرون الجمعة الشباب الجزائريين والأفريقيين إلى تجنّب "الانجرار" وراء "التلاعب الهائل" الذي تقف وراءه شبكات تديرها "في الخفاء" قوى تُصوّر فرنسا "عدوا" لبلدانهم.
وقال "أريد ببساطة أن أقول للشباب الأفريقيين: اشرحوا لي المشكلة ولا تنجروا لأن مستقبلكم لا يكمن في مناهضة فرنسا"، وجاء ذلك ردا على سؤال من صحافيين عن "خيبة من فرنسا" في عدد من الدول الأفريقية.
وتابع "نعم يتم انتقاد فرنسا. يتم انتقادها من أجل الماضي... لأننا تركنا لوقت طويل سوء التفاهم يترسّخ، وأيضًا بسبب وجود تلاعب هائل".
وأردف الرئيس الفرنسي "لنكن واضحين، العديد من نشطاء الإسلام السياسي لديهم عدو: فرنسا؛ العديد من الشبكات التي تحركها في الخفاء تركيا وروسيا والصين لديها عدو: فرنسا"، وشجب "خطط التأثير الاستعمارية الجديدة والإمبريالية" لتلك الدول.
وأضاف شارحا "هناك عدو هو فرنسا. الجميع متفقون، الأمر سهل للغاية". وتابع "ربما كانت تلك معركة أجدادكم وآبائكم لكن في كل مكان في أفريقيا يلقى على مسامعكم (حاليا) كلام أجوف وهراء".
وكان ماكرون قد ألقى كلمة مماثلة خلال زيارة في نهاية تموز إلى ثلاث دول أفريقية بينها الكاميرون حيث ندد بشدة بـ"الوجود الهجين" لروسيا في أفريقيا والذي "يمر عبر التضليل والميليشيات" وهو ما يمثّل "مصدر قلق أولاً وقبل كل شيء للقارة الأفريقية".
وفي الجزائر، دعا إلى "تعزيز الشراكة" في محاربة التهديد الإرهابي في منطقة الساحل، مؤكدا أن ذلك يشمل خصوصا "تفادي انتشار المرتزقة في المنطقة لا سيما مرتزقة (مجموعة) فاغنر" الروسية الخاصة الناشطة في مالي التي غادرها الجيش الفرنسي للتو.
- الغاز -
وفي ما يتعلق بالغاز الجزائري والطلب الكبير عليه، نفى ماكرون أن يكون جاء إلى الجزائر "يستعطي" الغاز، مؤكداً حصته الضئيلة في مصادر الطاقة الإجمالية الفرنسية (حوالى 20%).
لكنه في المقابل "شكر الجزائر" على زيادة إمداداتها عبر خط أنابيب الغاز "ترانسميد" الذي يغذي إيطاليا، مشيرا إلى أن هذا يسمح بـ"تحزيز تنويع (المصادر) في أوروبا" بعدما كانت تعتمد إلى حد بعيد على الغاز الروسي.
ووقعت مجموعات سوناطراك الجزائرية وإيني الإيطالية وأوكسيدنتال الأميركية وتوتال الفرنسية منتصف تموز عقدا ضخما بقيمة أربعة مليارات دولار ولمدة 25 عاما، من أجل "تقاسم" إنتاج النفط والغاز في حقل بجنوب شرق الجزائر.
وتعد الجزائر أول مصدّر للغاز في أفريقيا وتمد أوروبا بنحو 11% من احتياجاتها.
وبخصوص القضايا الدولية، دعا ماكرون إلى "تعزيز الشراكة مع الجزائر" في محاربة التهديد الإرهابي في منطقة الساحل.
وأوضح أن ذلك يشمل "منع انتشار المرتزقة في المنطقة، لا سيما مرتزقة فاغنر"، المجموعة العسكرية الخاصة الروسية الناشطة في مالي بعد انسحاب القوات الفرنسية من هذا البلد.
وروسيا حليف تقليدي للجزائر وهي تزودها بمعظم أسلحتها.
ويواصل ماكرون زيارته الجمعة بلقاءات مع الجالية الفرنسية ورجال أعمال محليين شباب.
كما يزور المسجد الكبير بالجزائر قبل الانتقال إلى وهران (غرب)، ثاني مدينة في البلاد تشتهر بانفتاحها.