في ماضٍ أشبه بالحلم، كان محمد حميد نور يمتلك قطيعاً من نحو مئة جاموس، لكن أهوار جنوب العراق التاريخية جفّت، ومعها تضاءلت أعداد حيواناته في شكل كبير.
من السماء، يبدو منظر الأهوار الوسطى في الجبايش مأسوياً.
تبقى فقط مسطحات قليلة من المياه، تتصل في ما بينها بممرات مائية نمت من حولها نباتات القصب. وفي المساحات التي تراجعت فيها المياه، ظهرت أرض جرداء أشبه بجلد غزته التجاعيد.
للسنة الرابعة توالياً، يلقي الجفاف بظلاله الثقيلة على الأهوار ويقضي بطريقه على الجواميس التي يستخدم حليبها في إعداد قشطة "القيمر" المحبّبة لدى العراقيين.
نضوب المياه في الأهوار. (أ ف ب)
تحت سماء زرقاء لا تبشر بهطول أمطار قريبا، يتأمل محمد حميد نور البالغ من العمر 23 عاماً، المشهد الكارثي. أمام قساوة الواقع، يترجّى الله قائلاَ "تبقى فقط رحمة الله". فخلال بضعة أشهر فقط، فقد الشاب ثلاثة أرباع قطيعه من الجواميس، منها ما نفق، ومنها ما اضطر إلى بيعه.
ومع استفحال الجفاف في الأهوار، ترتفع نسبة الملوحة في المياه، وتنفق الحيوانات التي تشرب من منابع تكون فيها الملوحة عالية جداً.
أهوار بلاد ما بين النهرين مساحات رطبة موزعة بين الجبايش والحويزة والحمّار تصنفها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) منذ 2016، تراثا عالميا.
إلا انها تتلاشى ومعها حضارة معدان الأهوار، أو عرب الأهوار، الذين يعيشون على صيد الأسماك والحيوانات وتمتدّ جذور حضارتهم في أرض الأهوار إلى 5 آلاف عام.
وتشير آخر التقديرات إلى أن مساحة الأهوار تبلغ اليوم حوالى 4 آلاف كيلومتر مربع، بتراجع عن 20 ألف كيلومتر مربع خلال تسعينات القرن الماضي. ولا يزال يقطنها نحو بضعة آلاف من المعدان فقط.
ويعود هذا التراجع خصوصاً إلى ارتفاع درجات الحرارة وشح الأمطار، ما دفع في السنوات الأربع الأخيرة الأهوار نحو الخراب، فيما كانت تعاني أصلاً بفعل سدود بنتها تركيا وإيران على نهري دجلة والفرات، إضافة إلى إدارة تقليدية للمياه يرى الخبراء أنها غير مناسبة.
بلغت الحرارة في الأهوار الوسطى أواخر حزيران الماضي، خلال جولة فريق وكالة فرانس برس، 35 درجةً مئوية عند الفجر، لكنها لامست الخمسين خلال النهار.
يتراجع مستوى الأهوار الوسطى ونهر الفرات، مصدر تغذيتها الرئيسي، بمعدّل "نصف سنتمتر في اليوم"، على ما يشرح المهندس جاسم الأسدي البالغ 66 عاماً والناشط البيئي المدافع عن الأهوار من خلال منظمة "طبيعة العراق" غير الحكومية.
ويضيف الأسدي، "خلال شهرين، ستكون درجات الحرارة مرتفعة جداً وسوف يزداد تبخّر المياه".
يقيم محمد حميد نور مع جواميسه على قطعة أرض انحسرت فيها المياه. ولإرواء حيواناته، يضطر الشاب إلى الذهاب في مركب إلى نقطة أعمق على درجة أدنى من الملوحة للتزود بالمياه، ويملأ حاويات مياه لنقلها إلى حيواناته.
على ذراعه، دق وشما لسيف الإمام علي ذو الفقار، من أجل جلب "البركة"، كما يقول الشاب.
قبل ثلاثين عاماً، عرفت الأهوار أوّل موت لها، حينما قام صدام حسين بتجفيفها. فبعد الانتفاضة الشيعية التي خرجت بعد حرب الخليج في العام 1991، اتخذ الديكتاتور العراق قراراً بمطاردة المشاركين فيها حتى آخر زاوية في الأهوار.
وخلال أشهر فقط، تحوّلت أكثر من 90% من الأهوار إلى "صحراء"، وفق جاسم الأسدي. حينها، غادرت الغالبية العظمى من سكان المنطقة البالغ عددهم 250 ألف نسمة "المكان نحو مناطق أخرى في العراق، أو إلى السويد والولايات المتحدة"، كما يضيف.
بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003 إثر الغزو الأميركي، دبّت الحياة من جديد في الأهوار مع تدمير السدود والقنوات التي استخدمت لتجفيفها اصطناعياً. عادت المياه إلى الجريان، والزوارق للإبحار وسط الممرات المائية المحاطة بالقصب وبجزر يقطنها معدان الأهوار الذين عادوا إلى أرضهم.
لكن، بعد عشرين عاماً على ذلك، يتبين من خلال جولة في الزورق، أن مستوى المياه فيها ينخفض في شكل متواصل.
يشرح الخبير في الأهوار من جامعة بغداد التقنية علي القريشي أنه "في العراق، تراجع مستوى نهر الفرات بنحو 50% منذ السبعينات من القرن الماضي". ويعتبر أن الأسباب "الرئيسية" خلف ذلك موجودة في المنبع، عند الدول المجاورة.
الجواميس الأخيرة. (أ ف ب)
فقد بنت تركيا التي ينبع منها نهري دجلة والفرات، وكذلك سوريا وإيران اللتان يمر النهران بهما، الكثير من السدود على النهرين وروافدهما.
ويقول القريشي إن "الأتراك قاموا ببناء المزيد من السدود لتلبية احتياجاتهم الزراعية. وكلما نما عدد السكان، كلما ارتفع الطلب على المياه للاستخدامات المنزلية ولاستخدامات الريّ".
ومنذ العصور السومرية والأكادية، يستخدم المزارعون العراقيون أسلوب الريّ بالغمر، والذي يعدّ إلى حدّ كبير مصدراً كبيراً لهدر المياه.
مع التقدّم في الأهوار الوسطى، يواجه الزورق صعوبة في مواصلة طريقه بسبب غياب المياه.
أصبح الشاطئ أرضا صحراوية انحسرت فيها المياه "قبل شهرين"، على ما يروي يوسف مطلق، مربي الجواميس البالغ من العمر 20 عاماً، الذي غطّى وجهه بوشاح يقيه حرارة الشمس والغبار.
كانت المنطقة تضمّ عشرة بيوت أو "مضيف" وهي مساكن تقليدية مصنوعة من القصب.
ويقول الشاب، "كانت المنطقة ممتلئة، لكن عندما اختفت المياه، ذهب الناس جميعهم"، تنهداً فيما ينظر إلى جواميسه التي كانت تمضغ الطعام المعبأ في الأكياس، نظراً لندرة العشب والنباتات الخضراء في الأهوار.