النهار

الحاضر الغائب في مشهد السودان
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
"لماذا اندلع الاقتتال بعد الموافقة على منح روسيا قاعدة في بورتسودان؟"
الحاضر الغائب في مشهد السودان
الدخان يتصاعد من الخرطوم (أ ب)
A+   A-

"كيف يمكن ألّا يكون للولايات المتحدة دور في إشعال الاقتتال الدائر في السودان؟" الدليل على هذا السؤال الاتّهاميّ "واضح": أرادت روسيا بناء قاعدة عسكريّة لها في تلك البلاد فتحرّكت أميركا لإجهاض المشروع. بالنسبة إلى محمّلي واشنطن الغالبيّة الساحقة من مصائب العالم، لا جدال في أنّها أشعلت الوضع السودانيّ، بالرغم من ضعف الأدلّة على ذلك، وهذا إن وُجدت. يبدو أنّ الانشغال الأميركيّ بالوضعين الأوكرانيّ والتايوانيّ لم يكن وحده مرهقاً للأميركيّين، بحسب هذه السرديّة.

 

بين الهدف الروسيّ والتعثّر الأميركيّ

ليس خبر طلب روسيا بناء قاعدة بحريّة في السودان (بورتسودان) جديداً. وافق الرئيس الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين على تأسيس القاعدة في 16 تشرين الثاني 2020، وهي قاعدة قادرة على إيواء نحو 300 جنديّ روسيّ و4 سفن منها ما يعمل على الطاقة النوويّة. سيدوم الاتّفاق لمدة 25 عاماً ويمكن أن يمدّد لعشرة أعوام إضافيّة في حال لم يعترض أحد الطرفين. مقابل سماح السودان لروسيا ببناء القاعدة، تمدّ موسكو الخرطوم بعتاد عسكريّ. تمّ نشر الاتّفاق رسميّاً في موسكو شهر كانون الأوّل 2020. مع ذلك، بقي الاتّفاق بحاجة لتشكيل حكومة مدنيّة ومجلس نيابيّ للمصادقة عليه قبل دخوله حيّز التنفيذ. في شباط، قال مسؤول لوكالة "أسوشيتد برس" إنّ الجيش أعطى الموافقة على الخطوة وإنّ روسيا وفت بتعهّداتها.

إذاً، كان للولايات المتحدة وقت كافٍ للتحرّك ضدّ القرار السودانيّ لو أرادت ذلك، أو على الأقلّ، أمكنها أن تخطّط لإطاحة المشروع من دون أن تتفاجأ بالحرب. واجهت الولايات المتحدة صعوبات كبيرة في عمليّات الإجلاء، حيث تشير التقديرات إلى وجود 16 ألف أميركيّ من أصل سودانيّ في البلاد. لم تعرب سوى أقلّيّة عن رغبتها بالمغادرة بحسب وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن. لكنّ ذلك لم يحصّن الإدارة الأميركيّة من انتقادات عائلات أميركيّين عالقين في السودان بعد رفضها الأوّليّ لقيادة الإجلاء. وتوجّهت وحدات من العمليّات الخاصّة إلى الخرطوم في 22 نيسان، بعد نحو أسبوع على اندلاع الاشتباكات، لإجلاء موظّفي السفارة الأميركيّة جوّاً. وتأكّد مقتل مواطنَين أميركيَّين بسبب الحرب الدائرة بين رئيس المجلس السياديّ السودانيّ عبد الفتّاح البرهان وقائد قوّات الدعم السريع محمّد حمدان (حميدتي) دقلو الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس المجلس السياديّ.

 

أسباب الصراع

يُظهر الخلاف بين البرهان ودقلو صراعاً تقليديّاً على السلطة في الدول التي تشهد تواتراً في الانقلابات. السودان مثلٌ جليّ على ذلك. لم يثق الرئيس السودانيّ السابق عمر البشير بالقوى الأمنيّة خشية تعرّضه للانقلاب فوزّع مراكز القوّة داخلها ورعى "قوّات الدعم السريع" المنبثقة من ميليشيات الجنجويد كنوع من الحرس الجمهوريّ. بعد الإطاحة بالبشير، اضطرّ البرهان وحميدتي للتعاون من أجل الحكم. تصاعدت الريبة بين الطرفين خصوصاً بعد الاتّفاق الإطاريّ في كانون الأوّل 2022 لأنّه وعد بتأسيس حكم مدنيّ واعترف بشرعيّة موقّتة لقوّات حميدتي واضعاً إمرتها بعهدة مسؤول مدنيّ عوضاً عن إمرة الجيش.

لم يحدّد الاتّفاق المرحلة الانتقاليّة لاندماج قوّات الدعم بالجيش. خلال المفاوضات، أراد البرهان أن تنتهي المرحلة في غضون عامين، بينما أرادها حميدتي أن تدوم لعشرة أعوام على الأقلّ. يعدّ هذا السبب أساسيّاً في تفجير الوضع. كان الصراع بين الرجلين واسعاً على مستوى "إصلاح" القطاع العسكريّ. رغب حميدتي بأن تكون الإصلاحات أكثر شموليّة وبتحسين "مهنيّة" أفراد الجيش قبل الدمج، كما أراد بقاء قوّاته في الاستحقاقات النتخابيّة كضمانة، لكنّ البرهان قال إنّ هذه الإصلاحات ستفرغ الجيش من قوّته وتفسح المجال أمام هيمنة قوّات الدعم. في الخلاصة، كما تقول الناشطتان الحقوقيّتان السودانيّتان عفاف دوليب وسماح خلف الله في معهد "سي أم آي" النرويجيّ للأبحاث، يملك الجيش السودانيّ وقوّات الدعم هدفاً مشتركاً: "الاحتفاظ بالسيطرة على بنية السلطة في السودان".

 

مشاكل شخصيّة وبنيويّة

لبرهان وحميدتي علاقة قويّة مع روسيا. وحميدتي بالتحديد يملك روابط مع مجموعة "فاغنر" الروسيّة. هذه العلاقات تستبعد فرضيّة تورّط أميركيّ في أزمة السودان لإحباط مشروع القاعدة البحريّة. في الوقت نفسه، حاول الرباعيّ المؤلّف من المملكة العربيّة السعودية والإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة المتّحدة والولايات المتحدة  خفض التوتّر بين البرهان وحميدتي خلال الأسابيع التي سبقت الانفجار، لكن من دون جدوى. وفي 11 نيسان، أي قبل أربعة أيّام على اندلاع المعارك، حثّ بلينكن البرهان على التعجيل في تشكيل حكومة مدنيّة انتقاليّة.

الصراع على السلطة في السودان يجعل الرعاية الإقليميّة والدوليّة لحلّ سلميّ بعيدة المنال، أقلّه بالنسبة إلى حلّ يمكن أن يوصف بالمستدام. في صحيفة "نيويورك تايمز"، كتبت مستشارة موفد أوباما إلى السودان وجنوب السودان جاكلين بيرنز كيف كان بعض القادة العسكريّين مهتمّين بمشاهدة مباريات كرة القدم في الفنادق التي احتضنت المحادثات أكثر من اهتمامهم بتخفيف حدّة المآسي عن السودانيّين.

المعضلة الكبرى التي يمثّلها السودان هي أنّه وبينما يشقّ طريقاً وعرة نحو السلام والديموقراطيّة، توفّر أراضيه تربة سياسيّة خصبة لتجدّد الحروب الأهليّة بصيغة أو بأخرى: إمكانات ضعيفة للدولة، موارد طبيعيّة للسيطرة عليها وجغرافيا تصعّب على الحكومة ممارسة سلطتها عليها. يفاقم ذلك افتقار الولايات المتحدة للقوّة الكافية من أجل فرض وقف إطلاق النار بحسب رأي الباحثة في "مجلس العلاقات الخارجيّة" ميشال غافين.

 

ما المطلوب من أميركا؟

بالرغم من العلاقات الإيجابيّة لموسكو مع طرفي الصراع، تبدو الأخيرة عاجزة عن ممارسة تأثيرها لفرض الحلّ، خصوصاً أنّ التهدئة وتنفيذ الاتّفاق الإطاريّ يناسبان مصلحتها الطويلة المدى. وبالرغم من أنّها أكبر شريك تجاريّ للسودان، تبدو الصين أيضاً عاجزة أو غير مهتمّة بالتوسّط.

تجسّد أزمة السودان ذروة مفارقة أن تكون الولايات المتحدة القوّة العظمى في العالم: تدخّلاتها في ما يفترض أن يكون شأناً خاصّاً في دول سيّدة يشعل الغضب المحلّيّ، وامتناعها أو حتى بطؤها بالتدخّل في نزاعات غير غربيّة يدفع المنتقدين (أنفسهم أحياناً) إلى اتّهامها بازدواجيّة المعايير.

إلى الآن، نجحت واشنطن مع حلفائها الإقليميّين وفي مقدّمتهم الرياض في التوصّل إلى هدنة هشّة في السودان. صمودها أمام جنرالين ليس لديهما الكثير ليخسراه مسألة أخرى.

اقرأ في النهار Premium