لم تغب الجماعات ال#إيرانية عن الصورة منذ أربعة عقود لتعود مع مستجدات 7 تشرين الأول أكتوبر، لا بل كانت في صدارة المشهد مع كلّ طارئ يحصل في الإقليم، من فلسطين مروراً بلبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى اليمن، وعلى كافة المستويات، لا سيما سياسياً وعسكرياً، فكان لها دور أساسي في إعادة رسم سياسة المنطقة لتكون على ما هي عليه اليوم.
تمثّل هذه المجموعات النفوذ الإيراني في الإقليم وتخوض معارك إيران، انطلاقاً من أن قرارها المركزي العسكري، وأحياناً السياسي في طهران، وكذلك تبعيّتها المالية، ولو أن عناصرها ينتمون إلى جنسيات الدول التي نشأت فيها هذه الجماعات، وهو الأمر الذي ينسحب على "#حزب الله" في لبنان، "#الحشد الشعبي" في العراق، والحوثيين في اليمن، لأن إيران، كأي قوّة تسعى لتوسيع نفوذها ولتكون قوة إقليمية، لا تقدّم المساعدات مجاناً.
نشأة هذه المجموعات وعلاقتها بإيران
لطالما كانت العلاقة بين إيران ومجموعاتها جدلية. وفي حين يقول رأي إن هذه التنظيمات ليست سوى أذرع للحرس الثوري في المنطقة، تنفّذ مشاريع إيران، لأن الأخيرة هي من أنشأ ودرّب ومدّ هذه التنظيمات بالأفكار والسلاح، ثمّة رأي آخر يقول إن هذه التنظيمات تلتقي مع إيران بمشاريع مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، وتقاطع المصالح دفع إيران لتسليحها ودعمها.
أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية – الأميركية عماد سلامة يعتبر أن هذه المجموعات تُشكّل أجنحة الحرس الثوري الإيراني في المنطقة، وتتعامل مع القضايا والأحداث على أنها جزء من الثورة الإيرانية، وبتنسيق استراتيجي تام مع القيادة في طهران، لكنها تتمتع بمساحة وحيثية عندما تتعلّق الأمور بالقضايا الداخلية في دولها، على ألا تتعارض الحسابات مع مصالح إيران.
لكن على المقلب الآخر، يُشير الباحث المتخصص في الشأنين التركي والإيراني ميشال نوفل إلى أن هذه الجماعات تتقاطع مع إيران التي تمدهم بالسلاح، لكنها ليست ملحقة بها، وتتصرف كل منها انطلاقاً من حساباتها الخاصة. فالحوثيون يعلمون موقعهم المؤثر على خريطة التجارة الدولية، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"حزب الله" في لبنان وعند الحدود مع فلسطين، والأمر ينسحب على المجموعات في العراق.
وفي حديث لـ"النهار"، يرى نوفل أن هذه المجموعات بمشاريعها الإقليمية تلتقي مع إيران، فالأخيرة قوة إقليمية ودولية لديها مشروعها في مواجهة النظام العالمي الخاضع للإملاءات الأميركية، وتنظيمات كـ"حزب الله" والحوثيين و"حماس" وغيرها تُشاركها مشروع المواجهة نفسه، خصوصاً أن لهذه المجموعات دوراً مؤثراً في ظل التحولات العالمية وصعود القوى غير النظامية أو "اللادولتية"، أي المجموعات وليس الحكومات؛ وبهذه الطريقة تلتقي المصلحة الإيرانية مع مصلحة مجموعاتها.
البنية الفكرية: الطائفية بدل القومية؟
انطلقت هذه الجماعات من أفكار متشابهة، إيديولوجيات دينية وشعارات تحرّرية، واختلفت في ما بينها حسب ظروف كل منها، فـ"حماس" التي تنتمي إلى فكر الإخوان المسلمين تلتقي مع "حزب الله" الذي ينتمي إلى فكر ولاية الفقيه على ثلاثة قواعد، الهوية الدينية (بشكلها كإيديولوجيا دينية لا بمضمونها)، الفكر المواجه لإسرائيل والولايات المتحدة، والدعم السياسي والعسكري من إيران.
يُشير الباحث والكاتب في الشؤون العربية صقر أبو فخر إلى أن إيران اعتمدت على العنصر الطائفي لإنشاء مجموعاتها واستقطاب الناس إليها، لأنّه الأسلوب الأنجح والأسهل، وابتعدت عن الفكرة القومية لسببين:
السبب الأول هوية إيران القومية، فإيران دولة فارسية القومية، ولا تلتقي مع العرب بأفكارهم القومية - العروبية، وبالتالي لا يُمكن أن تستقطب العرب بأفكارها القومية الخاصة.
السبب الثاني صعوبة اللجوء إلى الهوية القومية، لأن الفكر القومي يحتاج إلى إقناع ومفكرين ووسائل إعلام وإمكانات، فيما الهوية الطائفية موجودة أساساً ويُمكن تهييجها بطريقة أسهل.
وتلجأ إيران إلى شدّ العصب الطائفي بهدف استقطاب قواعد جماهيرية، أو بالحدّ الأدنى إلى كسب قبول في أوساط الجماعات. لكن ثمّة أساليب أخرى تعتمدها. وفي هذا السياق، يتحدّث أبو فخر ليقول إن إيران ومجموعاتها لجؤوا إلى مساعدة الناس مادياً، بناء المدارس والجامعات ونقل الثقافة الإيرانية عبرها، وهذا الجزء الأخطر، لأنّه يدمّر الهوية الوطنية للمتلقّين لصالح الأفكار الإيرانية، وهذا ما عملت عليه إيران.
وبهذا الصدد، فإن خيار إيران بناء المدارس والجامعات في المناطق التي تتواجد فيها بسوريا هو طريقة لنقل الأفكار والثقافة الإيرانية إلى الشباب السوريين، ومُحاولاتها استقطاب السوريين إلى المذهب الشيعي، أي نشر التشيّع، - وهي عمليات موثّقة - أيضاً تصبّ في مُحاولات تبديل العنصر الديموغرافي في سوريا وترسيخ وجودها أكثر فيها.
وبرأي أبو فخر، فإن الأفكار العروبية التي تجمع العرب على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وهذا ما حصل في حقبات سابقة مع ميشال عفلق وأنطون سعادة وجورج حبش وغيرهم، لا تُناسب إيران وجماعاتها التي نشأت على أسس طائفية. ولهذا السبب يتم اللجوء إلى شرذمة شعوب المنطقة طائفياً وتقسيمهم وتزكية الصراعات في ما بينهم، وتتلاقى مصالح إسرائيل وتركيا وإيران على هذا المشروع، لأنها تستمد قوتها من ضعف الكيانات المحيطة بها، من دون أن يعني ذلك وجود تحالف في ما بينهم.
بدوره، يرى سلامة أن الهوية الطائفية ظهرت بعد انهزام الأفكار القومية العربية، وإيران تمكّنت من استغلال هذا الواقع وغذّت الانتماء الطائفي ما أضعف الحماسة القومية. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن إيران توظف هذه المشهدية لتعزيز نفوذها في المنطقة وخدمة مشاريعها السياسية بمواجهة الغرب، لا الطائفية.
إلّا أنه برأي نوفل، "تدعم إيران مجموعات غير دينية أيضاً، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تتبع خطاً علمانياً، ثم إن "حماس" التي حملت فكر الإخوان المسلمين في بداياتها شهدت تحولاً كبيراً في العقد الأخير، إذ قطعت علاقتها بحركة الإخوان المسلمين الأممية، وتحوّلت إلى حالة فلسطينية وطنية، ترفع شعار تحرير فلسطين؛ ولهذا السبب تمكّنت من حصد تأييد في الضفة الغربية وغيرها".
مقارفة: ضعف الدول مؤسساتياً حيث الجماعات الإيرانية
وبالحديث عن المجموعات الإيرانية، لا بد التوقف عند مفارقة نشأتها في دول ضعيفة مؤسّساتياً تُعاني الحروب، كلبنان والعراق. ومن خلال الثلاثية المذكورة سلفاً، تمكّنت من خلق حيثية فاعلة لها في الدول التي تنشط فيها، حتى باتت العنصر السياسي والعسكري الأقوى، فضعفت المؤسسات الدستورية والمركزية أكثر حتى وصلت إلى مستويات الترهّل، وبات القرار الاستراتيجي لهذه الدول بيد الجماعات الإيرانية.
إضعاف المؤسسات الدستورية كان له أثره على المجتمعات الداخلية في هذه الدول، فنشأة مجموعة على أسس طائفية في ظل غياب دولة مركزية قوّية حفّز مجموعات طائفية وقومية وإثنية أخرى على خلق جماعاتها، مما أوصل إلى التقسيم بشكل أو بآخر، فبات للأكراد مناطقهم، وظهرت الحركات السنية المتشدّدة، وبينها تنظيم الدولة الإسلامية، وبات المسيحيون يُشيّدون الأسوار الوهميّة حول مناطق تواجدهم، مع العلم أن إيران لم تكن وحيدة في إنشاء هذا الواقع الجديد، بل إن المصالح الغربية تقاطعت مع هذه الرؤية، فعزّزت من الانقسامات، وكانت أساساً عاملاً مساعداً في إضعاف الدول، كحال العراق بعد الغزو الأميركي، أو لبنان بعد الاجتياحات الإسرائيلية.
دفع هذا الواقع المنطقة إلى التقسيم الطائفي المذهبي، وخلْقِ المواجهات بين هذه التنظيمات، فبات الإقليم عبارة عن جماعات طائفية متقاتلة من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا. وبالمبدأ، فإن هذا المشهد يُمثّل المشروع الإسرائيلي، وهو تقسيم المنطقة إلى جماعات مذهبية ووضعها في حالة حرب دائمة، انطلاقاً من أن وجود دول قوية في محيطها لا يصبّ في صالحها.
ووفق هذه المنطلقات، يُمكن تفسير أسباب ضُعف الدول المحيطة بإيران في الوقت الحالي؛ فالعراق الضعيف المفكّك هو مصلحة لإيران منذ عقود، ولبنان وسوريا الضعيفين هما مصلحة لإسرائيل، ولهذا السبب تتلاقى إسرائيل وإيران ومعهما تركيا على مبدأ تفتيت الشعوب العربية وإضعاف قوميتها ومحو هويتها، وذلك لضمان وجود تلك الدول ونفوذها ومصالحها في الإقليم، وقدرتها على الحفاظ على أمنها القومي.
في هذا السياق، يلفت أبو فخر إلى أن تواجد قوى مسلّحة تُشارك في صنع القرار، من شأنه أن يزيد من ترهّل مؤسّسات الدولة واندثارها. فبالدرجة الأولى، إمساك هذه المجموعات بالأمن، ومزاحمتها الدولة، يُضعف قوّة الأخيرة، ثم إن خروج هذه المجموعات عن القانون وتأمين الموارد المادية عبر التهريب والتجارات الممنوعة أيضاً يُضعف الدولة، وتتدحرج كرة الثلج وتكبر فتندثر الدولة لمصلحة الجماعات المسلّحة.
لكن أبو فخر لا يرى أن هذه المجموعات تنشأ لتُضعف الدولة المركزية، بل يُشير إلى أنها تستغلّ غياب أو ضُعف الحكومات لفرض وجودها. فـ"حزب الله" نشأ في ظل غياب الدولة في العام 1982، والمجموعات العراقية نشأت بعد انهيار الدولة في العام 2003، وكذلك الأمر حصل في سوريا؛ فالمجموعات الإيرانية حضرت وكبُر دورها في ظل الحرب الأهلية وضُعف النظام السوري.
من جهته، يقول نوفل إن إيران لا تتعمّد الدخول إلى هذه الدول وخرقها لأنها ضعيفة، لكن لا شكّ في أن فرصة نمو هذه المجموعات في الدول الضعيفة أكبر لأن البنى الدستورية والاقتصادية والاجتماعية تتيحها، فالدول القوية مركزياً لا تسمح بوجود مجموعات مسلّحة.
أي مستقبل لهذه الجماعات؟
تشهد المجموعات الإيرانية في هذه الحقبة من تاريخ المنطقة صعوداً قوياً، حتى باتت تُشكّل مجتمعة ومنفردة لاعباً أساسياً في مختلف المستجدات، ولن تكون آخرها حرب غزّة، حيث تُشارك التنظيمات بشكل أو بآخر، وكـ"حزب الله" في جنوب لبنان، والحوثي في البحر الأحمر، والفصائل العراقية بدرجة أقلّ؛ وكانت قد أدّت دوراً في سوريا، وفي الحرب اليمنية – السعودية، وفي الفوضى العراقية وغيرها من المحطات.
لكن ثمّة سؤال يكمن حول مستقبل هذه المجموعات، فهل سيستمر صعودها في المستقبل القريب والمتوسط، أم أن قوتها ستتراجع؟ ثمة معايير تحكم مستقبل هذه الجماعات، منها ما هو مرتبط بإيران وقوتها السياسية والاقتصادية وقدرتها على دعم مجموعاتها، ومنها ما هو مرتبط بالدول التي تتواجد فيها هذه المجموعات واحتمال تقوية هذه الدول ومؤسّساتها.
يتحدّث سلامة عن المعايير المشار إليها، فيرى أن الدول في العالم تُعاني من أزمة نُظم عميقة تستتبع مشكلات حكم، لأن معظم الدول القومية التي نشأت بعد الاستعمار أساسها غير سليم، وهذه الدول غير قادرة على حماية مواطنيها وتمثيلهم بشكل صحيح؛ وانطلاقاً من هذا الواقع، يكبر دور الجماعات الطائفية التي تُحاول تعويض دور الدولة، خصوصاً أنّها تتمتع بقدرة تمثيليّة أوسع لأن ركائزها مذهبيّة.
من جانبه، يلفت أبو فخر إلى أن هذه المجموعات تُضعف الدولة أكثر مع تعاظم دورها، وتسعى من خلال وجودها ونفوذها إلى بناء دولة بنظام جديد يُعطيها القوّة والنفوذ، ويُراعي وجودها. وبالتالي، فهذه الجماعات لا تُمانع قيام الدولة وحكومتها ومؤسّساتها، لكن على قياسها، أما ضُعف هذه الجماعات فيكون سببه ضُعف المركز، أي إيران، وانتهاء هذه الجماعات عادةً ما يكون باتفاق دوليّ.
نوفل بدوره يضع معياراً أساسياً يحكم مصيرها، وهو كيفية التعامل مع موضوع إسرائيل وفكرة المقاومة، فهي بقدر ما تمكّنت من التأثير في هذا الصدد، بقدر ما عزّزت دورها ووجودها، من دون إنكار وجود أزمات سياسية داخلية تواجهها كلّ مجموعة في دولتها.
في المحصّلة، فإن دور المجموعات الإيرانية في المنطقة سيبقى محطّ جدل ما بين ترسيخ النفوذ الإيراني والمشاريع التحرّرية التي ترفع لواءها. لكن الأكيد أن إيران لا تُنفق مئات ملايين الدولارات سنوياً على هذه المجموعات مجاناً ومن دون مقابل، ثم إن العلاقة بين الطرفين التي تعود إلى منشأ هذه الجماعات قد تتعدّى تقاطع المصالح، خصوصاً أن إيران كان لها اليد الطولى في النشأة ونقل الخبرات والتسليح، لكن كيف سيكون مستقبلها في ضوء التطوّرات؟
[email protected]