في سياق ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي الهائلة التي يشهدها العالم، تتركز الأنظار على الحيّز الأكاديمي الذي يشهد تحدّيات مكثّفة. نسلّط الضوء في هذه المحطة من متابعاتنا في "النهار" للجامعات العربية الرائدة التي تنغمس في مختبر الأبحاث وتدريس علوم الذكاء التوليدي، على جامعة عبد الله للعلوم والتقنية السعودية (كاوست).
يقول الدكتور عمر كنيعو، نائب رئيس مساعد في معهد التحول الوطني في الجامعة وأستاذ الرياضيات التطبيقية والعلوم الحاسوبية لـ"النهار" إن استراتيجية الذكاء الاصطناعي في كاوست تطورت بسرعة مع إنشاء مبادرة الذكاء الاصطناعي في عام 2019. وسجّلت العديد من المساهمات في مجال الذكاء الاصطناعي في مختبرات البحث الفردية منذ الأيام الأولى للجامعة، وقد أكدت مبادرة الذكاء الاصطناعي على الأنشطة البحثية المتعدّدة التخصّصات، حيث تتضمّن التطوّرات الأساسية في منهجيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها في مجالات علمية مختلفة.
ومع إطلاق استراتيجية الجامعة الجديدة في صيف عام 2023، توسّعت هذه الأنشطة على مسارات جديدة تهدف عموماً إلى تسريع تأثير الاكتشافات البحثية والقدرات المنشأة حديثاً، وذلك بالتركيز على أنشطة نقل المعرفة. وشمل ذلك خاصّةً تعزيز الشراكات الجديدة مع الحكومة وقطاعات صناعية والجامعات الشقيقة.
وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد أعلن أن "الاستراتيجية الجديدة للجامعة تمثّل عهداً جديداً لترسيخ مكانتها العلمية والأكاديمية التي وصلت إليها، لتكون منارةً للمعرفة، ومصدراً للإلهام والابتكار، تماشياً مع طموحات رؤية المملكة ٢٠٣٠ من أجل مستقبل أفضل للمملكة والعالم".
وتركز الاستراتيجية الجديدة للجامعة على ثلاث مبادرات رئيسة، هي: إطلاق معهد التحوّل الوطني للبحوث التطبيقية، وإعادة تنظيم معاهد الأبحاث في الجامعة بما يتماشى مع الأولويات الوطنية للبحث والتطوير والابتكار، وتأسيس صندوق الابتكار التقني العميق بميزانية تُقدّر بـ٧٥٠ مليون ريال سعودي، ويهدف الصندوق إلى الاستثمار المبكر في الشركات المحلية والعالمية المتخصصة في التقنية الفائقة، بما يعزز التنوّع الاقتصادي ويسهم في توليد الوظائف التقنية النوعية.
ويقول الدكتور برنار غانم، أستاذ علوم الحاسوب والهندسة الكهربائية وهندسة الحاسبات؛ ونائب مدير مبادرة الذكاء الاصطناعي في "كاوست" لـ"النهار"، إن تعليم الذكاء الاصطناعي يتم في برامج ووحدات مختلفة. وتعد كاوست جامعة بحثية على مستوى الدراسات العليا. وتُدرَّس العديد من الدورات في برامج علوم الحاسوب، الرياضيات التطبيقية وعلوم الحوسبة، الهندسة الكهربائية والحاسوبية، والإحصاء داخل قسم العلوم والهندسة الحاسوبية والكهربائية والرياضية، بالإضافة الى دورات تخصّصية في برامج أخرى داخل الجامعة تركز على تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الكيمياء، الطاقة، علوم الأرض، علوم المواد، وغيرها.
تحدّيات
ورداً على سؤال، يرى غانم أن هناك أربعة تحدّيات رئيسة تواجه التعليم في مجال الذكاء الاصطناعي عموماً: أولاً، الطلب الكبير على المواهب في الذكاء الاصطناعي سواء على مستوى الممارسين أو الخبراء. وهذا الطلب يضع ضغوطاً على الكيانات الأكاديمية. لذا هناك حاجة ملحّة لمزيد من البرامج التعليمية وكذلك لأعضاء في هيئة التدريس في السعودية وخارجها.
يضاف الى ذلك عدم وجود برنامج تعليمي يناسب الجميع، فالبرامج الأكاديمية المصمّمة لمن يهتمّون بالمهارات العملية ستكون مختلفة عن البرامج التي تستهدف خبراء وباحثي الذكاء الاصطناعي. وفي كاوست، "نحاول الاستجابة لهذا التحدّي من خلال برنامج تعليمي متعدّد الجوانب في الذكاء الاصطناعي".
وتبرز سرعة تطوّر الذكاء الاصطناعي كتحدٍّ أيضاً، إذ تحتاج البرامج التعليمية إلى أن تكون مرنة لتتوافق مع الاتجاهات المتغيّرة، خصوصاً تلك التي تستهدف أحدث طرق ونماذج الذكاء الاصطناعي.
أما التحدي الرابع فيكمن في تدريس الذكاء الاصطناعي لتطبيقات واقعية، ويتطلب الأمر تحليل مجموعات بيانات كبيرة. فتعليم الطلاب كيفية تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على هذه البيانات يحتاج إلى معجلات أجهزة متخصّصة مثل وحدات معالجة الرسوميات (GPUs) التي قد لا تكون متاحة في جميع الجامعات. بالطبع، الموارد عبر الإنترنت متوفرة مثل Kaggle وGoogle Colab ويمكن أن تساعد في معالجة هذا التحدي، لكنها ليست كافية بوضوح عندما تتوسع نماذج وبيانات الذكاء الاصطناعي.
وكيف تسهم الجامعة في مواكبة اهتمام المملكة المتزايد بالاستثمار في الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
يشرح غانم أن كاوست تُعدّ واحدة من الجامعات الرائدة في أبحاث الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، وتحتل مرتبة عالية من حيث المنشورات في المؤتمرات والمجلات العلمية المرموقة في مجال الذكاء الاصطناعي. ويعود ذلك إلى أعضاء هيئة التدريس والباحثين والطلاب المتميزين الذين يحققون تأثيراً كبيراً في كاوست التي يحافظ باحثوها على مكانة تنافسية في المجتمع الأكاديمي في هذا المجال. وتجعل الأبحاث ذات المستوى العالمي كاوست مركز جذب لعدد كبير من التعاونات والشراكات المحلية والدولية.
على سبيل المثال، تقود كاوست مشاريع بحثية مشتركة في مجال الذكاء الاصطناعي مع شركاء صناعيين مرموقين في المملكة العربية السعودية مثل أرامكو السعودية، نيوم، وغيرهما، وخارجها على سبيل المثال مع Meta، وكذلك مع شركاء من القطاع العام في السعودية مثل الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي أو SDAIA.
وتستضيف كاوست مركز التميّز في علوم البيانات والذكاء الاصطناعي SDAIA-KAUST، وهو جهد متعدّد السنوات يهدف إلى شراكة بين باحثي كاوست وباحثي SDAIA للعمل على مشاريع بحثية مشتركة ذات تأثير وطني.
وطوّرت كاوست استراتيجية بحثية في مجال الذكاء الاصطناعي والذكاء الاصطناعي التوليدي تهدف إلى توحيد الأبحاث والمواهب لتحقيق الركائز المعلنة حديثاً في المملكة للبحث والتطوير والابتكار (الصحة والعافية، الاستدامة، الطاقة والقيادة الصناعية، واقتصادات المستقبل). وستركز استراتيجية الذكاء الاصطناعي في كاوست على تطوير الجيل الآتي من نماذج وأساليب الذكاء الاصطناعي لجعله أكثر دقة وموثوقية وكفاءة وأماناً، وتخصيص هذه النماذج والأساليب للركائز الأربع للبحث والتطوير والابتكار، وفق غانم.
وينوّه بضرورة استشارة المجتمع الأكاديمي للذكاء الاصطناعي عالمياً والسماح له بالإسهام في تحديد توجّهات وسياسات الذكاء الاصطناعي المستقبلية، "على سبيل المثال، أنا مؤمن بشدة بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. وفي رأيي، ينبغي إجراء المزيد من النقاشات وتطوير خطط عمل جدية في هذا الاتجاه".
من ناحيته، يخلص كنيعو الى الحاجة لاستخدام موارد حوسبة كبيرة وقواعد بيانات ضخمة، وتحديث البنية التحتية باستمرار لدعم التطوّرات الجديدة في الذكاء الاصطناعي التوليدي. كما أن التحديات ذات الطبيعة الأخلاقية حادّة أيضاً، خصوصاً مع تقدّم التكنولوجيا في الذكاء الاصطناعي التوليدي بوتيرة تفوق "قدرة مجتمعاتنا على استيعاب التبعات مع ضرورة تطبيق الإرشادات التي تضمن النشر الفعّال والمسؤول والمفيد".