خالد سليمان
تشير دراسات ما قبل التاريخ الى أن الظروف الهيدرولوجية القديمة في بلاد الشام والجزيرة العربية كان لها دور مهمّ أثناء انتشار أشباه البشر قبل 120 الى 65 ألف عام قبل الآن. من الواضح أن توافر الموارد المائية على نطاق واسع، بسبب زيادة هطل الأمطار في المنطقة، أتاح فرصاً كبيرة للبشر والحيوانات العاشبة واللاحمة للتوسع والبقاء على قيد الحياة مع مرور الوقت، كما أن تكوين البحيرات في شبه الجزيرة العربية دعم الوجود البشري. انتشر الإنسان العاقل (Homo Sapiens) من أفريقيا إلى أوراسيا عدة مرات في العصر البليستوسيني أو ما يعرف بالعصر الجليدي الذي بدأ قبل مليونين ونصف مليون سنة واستمر الى ما يقارب 12 ألف سنة قبل الآن.
استناداً الى دراسة حفرياتية، وصل الإنسان العاقل الى بلاد الشام والجزيرة العربية عبر شمال شرق أفريقيا، وهو ممرّ أرضي قابل للحياة. من المحتمل أن جنوب بلاد الشام القاسي حالياً من ناحية المناخ، كان عبارة عن سافانا ومراعٍ خلال العصر الجليدي الأخير. وقام العلماء بتوثيق رواسب الأراضي الرطبة مع عصور الضوء المنبعث (العصور التلألؤية) التي سقطت في آخر فترة جليدية في جنوب بلاد الشام، وتُظهر الدلائل مراحل طويلة من توافر الرطوبة. وتحتوي رواسب الأراضي الرطبة في وادي غرندل في شبه جزيرة سيناء على تقنيات أثرية من نوع (ليفالوا) يعود تاريخها الى 84 ألف عام قبل الآن. إن النتائج التي توصّل إليها الباحثون تدعم الإجماع المتزايد على وجود وادي الأردن المتصدع المروي جيداً والذي كان يتنقل البشر المهاجرون من خلاله إلى غرب آسيا وشمال شبه الجزيرة العربية.
تؤكد رواية علمية مثيرة للاهتمام عن المناخ القديم أو مناخ ما قبل التاريخ Paleoclimate تعرّض شمال شرق سوريا لضربة مذنّب كارثية، أدّت الى انقراض واسع للأنواع وحدوث تغيّرات جذرية في طبيعة المنطقة من ناحية الرطوبة والغطاء النباتي والأنواع، كما أدّت الى تحوّل كبير في حياة السكان من الاعتماد على الصيد وجمع الثمار البدائيين الى الزراعة المستقرّة.
تعتمد الرواية على فترة مناخية مهمة تُعرف بفرضية "تأثيرات درياس الأصغر" في الدراسات المتعلقة بالمناخ القديم في تاريخ الأرض وتعود الى 12800 الى 11600 ألف سنة قبل الآن. وقد أدى ذلك الحدث المناخي الكبير إلى تبريد مناخ الكوكب على نطاق واسع في نصف الكرة الشمالي عند خطوط العرض العليا، وإلى الاحترار ودرجات الحرارة المتوسطة في خطوط العرض العليا في نصف الكرة الجنوبي.
كان التحوّل المناخي الناجم عن ذلك متبايناً في المنطقة، ونشأت تدرّجات حادّة في درجات الحرارة وهطل الأمطار بين المناطق الساحلية الأكثر رطوبة، بينما أصبحت المناطق الداخلية بين جنوب بلاد الشام والمناطق الشمالية، بما في ذلك جنوب الأناضول أكثر جفافاً. كان مناخ درياس الأصغر جافاً وأبرد بحوالي 5 درجات مئوية مقارنة باليوم الحالي في الأناضول.
تشير الدراسات الحفرياتية عن تلك الفترة الى أن الأرض اصطدمت بشظايا مذنب متفكك في قرية أبو هريرة في الضفة اليمنى من نهر الفرات على بعد 80 كلم غربي مدينة الرقة الحالية، ما أدّى إلى تغيّر المناخ في فترة درياس الأصغر قبل حوالي 13 ألف عام. على الرغم من نتائج بيئية كارثية، بما في ذلك تقلص عدد السكان، حدثت ظروف بيئية جديدة ملائمة الأمر الذي أوجد مناخاً مناسباً للزراعة وإنتاج الحبوب وتدجين النباتات والحيوانات في غرب آسيا.
أدى الانفجار في قرية أبو هُريرة الى توقف توسّع الغابات في المنطقة واختفاء أشجار الفاكهة والجوز وشجيرات التوت إلى حدّ كبير مع تراجع موطنها من جراء برودة الظروف القاحلة والأكثر جفافاً بسبب الانفجار. وقد توسّعت المساحات القاحلة من جراء ذلك لمسافة 200 كيلومتر تقريباً باتجاه ساحل البحر الأبيض المتوسط. وقد دفع اختفاء الغابات وتراجع الثمار واختفاء الحيوانات البرّية من جرّاء الحدث الكوني-المحلي السكان للبحث عن سبل العيش عبر الحبوب والبقوليات وتدجين الحيوانات البرّية، وخاصة أن المناخ الناشئ الجديد كان ملائماً لذلك.
تقدم قرية بيستانسور 33 كلم جنوبي مدنية السليمانية بإقليم كُردستان العراق والمدرجة في القائمة المؤقتة للتراث العالمي لليونسكو، دلائل موثوقة عن انتقال المجتمعات من الصيد والتنقل وتجميع الثمار إلى مجتمعات منتجة مستقرة. تم في بيستانسور التي تُعد قرية زراعية غنية لليوم، تدجين حيوان الماعز والأغنام والخنازير البرية الى جانب صيد مجموعة من الثدييات الكبيرة والصغيرة. كما تم صيد الأسماك والطيور والقواقع، مما يشير الى تنوّع النظام الغذائي للمجتمعات في تلك الفترة بعدما أصبحت زراعة الحبوب والبقوليات عملاً مستقراً ودائماً.
ظهرت هذه القرية إلى الوجود في المراحل الأخيرة من العصر الحجري الحديث الذي يُعرف بعصر الثورة الزراعية (7500-8000 سنة قبل الآن) وحصلت فيها السيطرة على مصادر الغذاء. لم يحدث الانتقال من حياة الصيد وجمع الثمار الى الاستيطان الزراعي بين ليلة وضحاها، بل احتاج الى ما يقرب 7 آلاف سنة، وهي فترة أساسية تطورت فيها زراعة الحبوب والبقوليات وكذلك تربية الحيوانات. وقد ابتكرت المجتمعات الى جانب الزراعة صناعة الفخار واستخدامه للتخزين والطبخ وغيرها من الاستعمالات. وتشير الحفريات الى أن الحمّى المالطية أو داء البروسيلات انتقل من الماعز للإنسان في قرية بيستانسور للمرة الأولى في تاريخ البشر.
تشير بقايا مجتمع بيستانسور مثل الأصداف البحرية وأدوات حجر السج وخرز العقيق الى التحرّق على نطاق واسع جغرافياً، حيث جاؤوا بحجر السج من شرق أناضول، والعقيق من إيران أو أفغانستان، والأصداف البحرية من البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي.
ويرجع العلماء عدم إعادة الإعمار المناخي في هذه المنطقة الى سابق عهدها قبل عصر الهولوسين (قبل 12 ألف سنة)، الى تعقيد المناخ نفسه نسبياً. فالرياح السائدة هي من الغرب، مع تأثير مناخي كبير من شرق البحر الأبيض المتوسط وتضاريس إقليمية متنوّعة تؤثر على أنماط دوران الغلاف الجوي المحلية. سهل ساحلي ضيق مدعوم بجبال عالية مع الوادي المتصدع إلى الشرق، وتستمر سلاسل الجبال الإضافية شرقاً قبل أن تستقر المناظر الطبيعية باتجاه وادي الفرات وداخل شبه الجزيرة شمال شرق سوريا.
باختصار، نجمت عن تحوّل مناخي كبير ومفاجئ في بداية درياس الأصغر، ظروف مناخية أكثر برودة عموماً في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تحديداً في مناطقها الداخلية حيث انخفض المناخ الموسمي بشكل واسع لجهة درجات الحرارة والهطل المطري مع تغير خطوط العرض والبعد عن البحر والتغيرات في التضاريس. وعلى الرغم من ان المناخ أصبح معتدلاً مرة أخرى مع بداية عصر الهولوسين، استمر تغيّر المناخ نحو جفاف أكثر ولم تعد الغابات بعد إلى المنطقة فتحوّلت غالبية أراضيها الى قاحلة أو شبه قاحلة.