رولا عبدالله
تغيّرت أحوال غزّة كثيراً. لا البحر يشبه أمواجه ولا البيئة البحرية رمال ناعمة وذهب يطلع مع الشمس، ولا أيّ أثر لحياة في أحياء بكاملها. هناك على حدود الأفق وقفت جميلة غزّة متأمّلة في المراكب الراسية والأبواق التي تنذر بالمغادرة. راقبت فحسب مشهد الغروب مستذكرةً جدّها الذي أخبرها أنّه قبل نكبة و76 عاماً من اللجوء جاء طعم النزوح مرّاً يشبه دوار البحر. أصغت بحزن لذلك التهدّج في صوت كبير العائلة، لكن لم يخطر في بالها أن تختبر التجربة نفسها بأبشع معانيها.
تنزح من المنزل الذي احتضن طفولتها وأحلامها صبيّةً مجرّدة من أدنى حقوقها في أن تحمل معها الدمى وأقلام التلوين والصور الموزّعة على سنوات عمرها. هكذا غادرت بلستيا العقاد تل الهوى معلّقةً على جناحي طائرة أقلّتها إلى آخر الدنيا، عند حدود أوستراليا، لتبدأ من هناك ألف باء اللجوء على أمل عودة معلّقة هي الأخرى على أنقاض مدينة خسرت ثلاثة أرباع معالمها.
باغتها اللجوء من دون أن تتحضر جيّداً، خاوية اليدين من جنى العمر. عزاؤها أنّها وثّقت بالصوت والصورة أجمل محطات الأمس متنقّلة من الشاطئ الذهبي إلى الفنادق الفاخرة والأسواق المزدحمة بروّادها والمقاهي وأشجار الحمضيات والعنب، والتين، والتوت، والبطيخ والمسجد العمري وكنائس تعود للقرون الوسطى. وكما وثّقت كلّ جميل عن المدينة والسفر والرحلات، بالضحكة والصوت والصورة، وجدت أنّها كصانعة محتوى يتابعها الملايين على "إنستغرام" ملزمة بتوثيق مرحلة ما بعد العدوان.
عرّت بالتعاون مع إعلاميي الداخل همجيّة الحرب الآخذة في الاستشراس حتى اللحظة، بدءاً من صوت القصف يقرع جدران منزلها، إلى الخيم وحياة الشارع والتشرّد والجوع والفقدان، لتتحوّل صفحتها إلى إخبارية توثيقية لما يحدث في القطاع من مجازر ودمار تسبّبت به القوات الإسرائيلية، حتى إن الصحافة الأجنبية نشرت فيديوهاتها وصورها عبر صفحاتها مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز وذي إندبندنت.
ووسط كلّ السواد المتصاعد من غزّة مع دخان القصف، ميّز بلستيا أنّها حافظت على هدوئها، تبحث بين الركام عن شارة أمل وتلاعب اليتامي في الخيم ومعاً يغنّون: "يا عالم أرضي محروقة أرضي حرّية مسروقة"، ويصفّقون معاً للفائز في لعبة "إكس أو" على الرغم من معرفتهم أن الحجارة المصبوغة بالأحمر تعود لمنازلهم.
من أوستراليا حيث البحر أبعد ممّا توقّعت، تشتاق بلستيا لشواطئ غزة التي تبعد عن منزلها عشر دقائق. تحكي لـ"النهار" وجع السنوات بينما تودّع عامها الـ22: "قد أكون نجوت من أكثر الحروب همجيّةً في التاريخ، لكن كلّنا ضحايا في هذا العالم المتفرّج على حرب الإبادة. لا شك يسكنني إحساس بالضيق لأن آخرين كثراً أحبّة وأصدقاء وعائلة خسروا حياتهم في الأشهر الأخيرة، لكن ما في اليد حيلة وكما أيّ فلسطيني أردّد: عندما أرى مصيبة غيري تهون عليّ مصيبتي. صحيح أنّ تجربة الانسلاخ عن المنزل والحيّ الذي وُلدت فيه قاسية، لكن في المقابل الكل يعزّي نفسه وفق مسلسل الخسارات التصاعدي: من يعيش في خيمة لأنّه خسر منزله يعزّي جاره في الخيمة المجاورة الذي فقد ولده، والأخير يعزّي جاره الذي فقد هو الآخر أطفاله ولم يعثر على أشلائهم ولم يتمكن من دفنهم كما فعل غيره... وتكرّ السبحة في خسائر تكبر مثل كرة النار".
من حرب غزّة الأخيرة لمست بلستيا باليد الكذبة الكبرى التي يعيش فيها هذا العالم الذي لا يشبه المُثل المكوّمة في المناهج الأكاديمية. صحيح أنّها درست الفنون في جامعة شرق البحر المتوسط في قبرص التركية، وهناك حفظت عن ظهر قلب مناهج تنادي بالحرّية والإنسانية ومعاني الجمال، لكن تقول: "بعد 9 أشهر من الحراك الجامعي في الولايات المتحدة ودول كبرى حول العالم، أيقنّا أنّ غزّة وحدها تخوّلنا أن نعيش مفاهيم الحرّية بالطريقة التي ننشدها في وقت يُطرد فيه موظف في أميركا لأنه وضع شارة فلسطين على صفحته الخاصة، وتوقف الشرطة الطالب الذي لا يمتثل لتعليمات الجامعة التي يمثّلها. فأيّ حرّية هذه التي يتغنّى بها العالم؟".
تعلّق: "نتفاءل مثل غيرنا حين يصدر قرار يشير إلى ممارسات إسرائيل غير المقبولة، ولا سيما من جانب الولايات المتحدة، أو جهة أممية، لكن مثل هذه القرارات تواسي ولا تثمر على الأرض. كلام في الهواء ليس إلا".
تضيف بلستيا: "حين نتعثّر في طرقات غزّة بجثث أطفال أو صبية تقطّعت أطرافهم أو مسنّ يئنّ من الوجع أو أمّ ثكلى تصرخ بحثاً عن أطفالها تحت ردم منزلها، عندها من المعيب أن يكون السؤال: أنتم مع حماس أم ضدها؟ والقضيّة التي كانت سياسيّة تصبح بحت إنسانيّة. والواقع البشع على الأرض يأخذ إلى أسئلة وجوديّة أكثر إلحاحاً: "كيف نتعامل مع عائلات محاصرة بين البارود والركام من دون إمكانية إغاثتها. وإذا توقّفت الحرب، ماذا بشأن هذا العدد الضخم من المعوقين والمصابين وأجيال خسرت مدارسها وكل مصادر الأمان. وماذا عن خسارتنا لنوابغ غزة في العلوم والطب والتكنولوجيا وغيرهم؟ ماذا عن معالم المدينة وآثارها وما يدلّ إلى تاريخها؟". تضيف: "نحن بالكاد نتدبّر حاضرنا فما بالكم بالسؤال عن مستقبل غزّة؟".
لكنّ النضال لا يكون من الداخل فحسب، إذ تكمل بلستيا مهمّتها من أوستراليا منهمكةً بتأليف كتاب تضمّنه مشاهداتها على الأرض: "بإمكانهم تغيير معالم مدينة وبإمكاننا صون هذه المدينة على الورق في ذكريات ومشاهدات وذاكرة لا تنضب".
كيف حافظت بلستيا على هدوئها في غزة خلف الكاميرا أثناء القصف؟ تأتي الإجابة: "يكون ذلك بتمرين أنفسنا على أدوات الصمود. انتابني مراراً إحساسٌ بالاختناق داخل المباني المدمّرة وفي المستشفيات والشوارع التي لا تخلو من جثث النساء والأطفال. وبعد كل تغطية صعبة على الهواء، أبحث عن دواء لروحي، كأن أزور أم يارين التي تسكن خلف المستشفى. هذه المرأة التي تربّي العصافير تعطيني مع كوب الشاي الكثير من السكينة. لقد باتت السيّارة التي تقلنا نحن مجموعة الصحافيين الصامدين في غزة منزلنا الذي ندّخر فيه لزوم الصمود. نشتري من السوق قطعة حلوى أو ما يصادفنا لسدّ الرمق خلال أوقات القصف الصعبة. في السابق كان البحر ملاذنا للسكينة والهدوء، لكن مسيّرة الكواد كابتر دائماً بالمرصاد، وكذلك الزنّانة على مدار 24 ساعة. وكان علينا كغزاويين إما التعايش مع الخوف أو الانهيار. ومهما تعايشنا، تجد إسرائيل دائماً منفذاً لمفاجأتنا. من كان يقول أن تُقصف الخيام بقنابل بإمكانها تدمير أحياء، أو أن تُخلى المدارس وتُنسف من أساساتها!".
تقارن بلستيا بين موطنها وأوستراليا: "غزة كانت شارعين وحارة ولا تقارن بقارّة، مع ذلك إمكان النضال من البعيد فاعل وجدّي من خلال صحافة الـ"فري لانسر" التي تخوّلني نشر كتاباتي بحرّية من دون فرض شروط مسبقة واستخدام تعابير ومصطلحات خاصّة. ومن خلال التقنيات الحديثة أطلّ على طلاب المدارس والشباب في لقاءات مستمرة لنقل تجربتي الميدانية".
من البعيد حيث يتساقط المطر في أوستراليا، قلب بلستيا على غزة "نار مشتعلة"، تطفئها بالكتابة لتعرية الجرائم في كل شبر من غزة: الشمال وخان يونس والنصيرات ورفح وغيرها الكثير من المحافظات. تأخذ بحق الطفلة هند وكثيرات غيرها. ومن الحرب الأخيرة تبدأ الكتابة: الفلسطينيون ليسوا أرقاماً... نحن نحبّ الحياة وغزة الجميلة على شواطئ المتوسّط. نؤمن كثيراً بأن العيش في خيمة إجراء موقت في الطريق الى استعادة ما سُلب منا. ومهما جارت الحياة وقست... حتماً الغد آتٍ بأجمل تكاوينه. المهم أن لا نستسلم".