النهار

وقفات "النهار"... سوريا: من الاستقلال إلى انقلاب 1970
المصدر: "النهار"
وقفات "النهار"... سوريا: من الاستقلال إلى انقلاب 1970
سوريا (أ ف ب).
A+   A-
إعداد: لوسيان شهوان
 
عرفت سوريا انتداباً فرنسياً في عام 1920، تلاه ثورة مسلّحة في عام 1925، ونضالاً سياسياً مع تأسيس الكتلة الوطنية في عام 1928 كأوّل تنظيم سياسي في عهد الانتداب. أتى تأسيس الكتلة بعد أن أيقن دُعاة الاستقلال أن الثورات العسكريّة لن تجدي نفعاً، وأن لا فرصة لانتزاع الاستقلال من الفرنسيين إلا بالنضال السياسي. خاضت الكتلة الوطنيّة معركة الدستور في عام 1928 وما تلاها من إضرابات وبعدها مفاوضات، لتصل إلى توقيع معاهدة مع فرنسا في عام 1936، تنصّ على وحدة سوريا وعلى تحالف فرنسي – سوري يمتدّ 25 عاماً، مع الإبقاء على حضور عسكريّ فرنسي على الأراضي السوريّة خمسة أعوام. لكن المعاهدة لم تصمد بسبب نشوء صراع حولها داخل فرنسا. وبعد قيام مؤيدي الانتداب متحالفين مع اليمين بحملة كبيرة ضد نص المعاهدة، ومع إبرام فرنسا اتفاقية مع تركيا في عام 1938 وضمّ أنقرة "لواء إسكندرون" إلى أراضيها، غادر الرئيس السوري هاشم الأتاسي الرئاسة في عام 1939، وعلّق المفوّض السامي الدستور وحُلّ البرلمان. بعد ذلك، بدأت الحرب العالمية الثانية، إلى أن أتى الاستقلال عن فرنسا في عام 1943، ومن ثم جلاء الجيش الفرنسي عن الأراضي السورية في نيسان (أبريل) 1946. ما بعد الاستقلال انتهى دور الكتلة الوطنية في سوريا بعد الاستقلال، وخرج من رحم الكتلة حزبان: حزب الشعب الذي حمل مصالح حلب وطبقة المالكين الإقطاعيين في وسط سوريا وشمالها، والذي عمل على تحقيق وحدة مع العراق؛ والحزب الوطني الذي مثّل دمشق وجنوب سوريا والذي اعتبّر حليفاً للمملكة العربية السعوديّة ومصر. لا شك في أن سوريا عرفت خلال مرحلة هذه الأحزاب نظاماً ديموقراطياً واقتصاداً حرّاً.
 
لكن الصراعات الدوليّة والإقليمية أنهكت الحياة السياسية في سوريا. فقد سبّبت هذه الصراعات موجة انقلابات عسكريّة داخل سوريا ساهمت في ضرب الديموقراطيّة تدريجياً، وأضعفت دور الأحزاب. وفوق الانقلابات العسكريّة التسعة التي بدأت في 30 آذار (مارس) 1949 بانقلاب حسني الزعيم القريب من الاستخبارات الأميركية على الرئيس السوري شكري القوتلي، وانتهت بانقلاب 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 الذي قام به وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد، بالتعاون مع رئيس الأركان آنذاك مصطفى طلاس، ثمة عنوانان لتحدّيين أساسيّين اختصرا التحوّلات الكبيرة في سوريا، هما: الجمهورية العربية المتحدّة في عام 1958، وسيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في عام 1963. مرّت على سوريا خمسة انقلابات عسكريّة بين عامي 1949 و1955. ومما لا شك فيه أنها كانت مؤثرة كثيراً في إدارة الحكم ومؤسساته بشكل مباشر.
 
فقد أضعفت هذه الانقلابات صورة الحكّام المتعاقبين، وبدا العسكر السوري بتعدّدياته وأفكاره مسيطراً على المشهد السوري الداخلي، ولو تبدّلت محرّكاته الخارجية. فما سعى الفرنسيون إلى بنائه لمرحلة ما بعد الاستقلال من تركيبة إدارية للحكم بدا ضعيفاً ومنهكاً أمام تحديات الانقلابات المتتالية. يضاف إلى ذلك أن رياح الأفكار اليساريّة بدت أقوى من الرياح الغربية. وحتى الأحزاب القائمة آنذاك، كحزب الشعب، والتي كانت تعبّر طيلة فترة حكمها عن نقيض للشيوعيّة، بدأت تجنح نحو أفكار اليسار بين الحين والآخر، علّها تتماشى مع الموجة الآتية من الاتحاد السوفياتي، فتحافظ على مكانتها في الحكم. تصدّر الرئيس المصري جمال عبد الناصر المشهد العربي بعد العدوان الثلاثي على مصر الذي خرج منه سليماً، وبعد وقوفه إلى جانب سوريا في أزمتها الحدوديّة مع تركيا في عام 1957، وإرساله الجيش المصري إلى الحدود السورية للوقوف في وجه الأتراك في حال قرروا آنذاك الدخول إلى الاراضي السورية.
 
باتت معالم الوحدة أوضح بعد أن فرض عبد الناصر شروطه على الجهة السوريّة، مقابل قبوله بالوحدة الكاملة. تمحورت شروط عبد الناصر حول استفتاء أراده من الشعبين السوري والمصري حول قرار الوحدة، مستفيداً آنذاك من حالة التأييد الشعبي الكبير له في الوسط العربي ليستمدّ مشروعيّتة في حكم سوريا ومصر من الشعب، إضافة إلى وقف تدخل الجيش السوري في سياسة بلده. وأراد أيضاً إنهاء النشاط الحزبي في سوريا ليتمكن من إحكام سيطرته على الحياة السياسية بشكل كامل. تحققت إرادته، فكانت الوحدة التي عززت أحاديّة القرار الناصري في "القطرين"، المصري والسوري. لم تصمد الجمهورية العربية المتحدّة كثيراً بسبب التأثيرات السلبيّة لقرارات عبد الناصر على الداخل السوري، كإقصاء دور الأحزاب في الحياة السياسية، والتخلّص من بعض الشخصيات النافذة، ومن بعض البعثيين في تركيبة الحكم، إضافة إلى اتخاذه إجراءات تأميم المصارف والمعامل والشركات في سوريا. على صعيد الجيش، أنهى عبد الناصر خدمة عدد من الضباط الشيوعيين، وأعاد النظر في وضع بعض الضباط البعثيين. ومع الوقت، بدأت النعرات بين الضباط السوريين والمصريين تظهر إلى العلن. بناء على ذلك، وفي 28 أيلول (سبتمبر) 1961، حصل الانقلاب السادس في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهذه المرّة على "الوحدة". قاد عبد الكريم النحلاوي هذا الانقلاب، معلناً انفصال سوريا عن مصر، ومكلفاً في 29 أيلول (سبتمبر) 1961 مأمون الكزبري مهمة تشكيل حكومة جديدة في البلاد، وهي الحكومة التي عاد النحلاوي وانقلب عليها وعلى رئيس البلاد، لكنه لم ينجح بفرض إرادته. وفي 1 نيسان (أبريل) 1962، انعقد مؤتمر حمص برئاسة اللواء وديع مقعبري، بهدف إعادة الانتظام إلى الحياة السياسية، وإطلاق سراح رئيس البلاد الذي اعتقله النحلاوي. اتخذ المؤتمر آنذاك قراراً بإبعاد النحلاوي عن الجيش، فنُفي إلى خارج سوريا.

من الاستقلال إلى انقلاب 1970

8 آذار (مارس) 1963 وما بعده
 
هناك سرديّتان في الحديث عن انقلاب 8 آذار (مارس) 1963 الذي أطاح الرئيس ناظم القدسي: الأولى سرديّة بعثية بامتياز تختصر الإنقلاب في شخصيات البعث آنذاك، مثل صلاح جديد وأحمد المير وغيرهما من قيادات البعث؛ والثانية تذهب إلى مشاركة فاعلة لفرقاء آخرين في الانقلاب، كالعقيد زياد الحريري قائد جبهة الجولان آنذاك، وما كان ينتمي إلى البعث، إضافة إلى ضباط ناصريين كانوا ينتظرون الفرصة لإحياء الوحدة مع مصر، وكان العقيد راشد قطيني أبرز هذه الشخصيات الناصرية. البعث حاضر في السرديّة الثانية من خلال النقيب سليم حاطوم والدور الذي لعبه في السيطرة على الإذاعة والتلفزيون ومبنى قيادة الأركان. من هنا نرى أن نجاح انقلاب 8 آذار (مارس) مشترك بين الناصريين والبعثيين. الثابت المشترك بين السرّديتين هو أن انقلاب 8 آذار (مارس) كان محطة مفصليّة على طريق الهدم التدريجيّ للحياة السياسية في سوريا، وإنهاء دور الأحزاب الوطنية بشكل شبه كامل، وكأنها حقبة التخلّي الكامل عن شرعيّة الدستور لصالح شرعيّة جديدة عنوانها الأمر الواقع. كما شكّلت هذه الحقبة جسر عبور متين للاستيلاء البعثي الكامل على السلطة.
 
بعد إتمام الانقلاب، بدأ صراع جديد يظهر إلى العلن داخل حزب البعث، بين فريق عُرف آنذاك بالقيادة القطرية وضم صلاح جديد وحافظ الأسد وعبد الكريم الجندي وسليم حاطوم من جهة، وفريق القيادة القومية ويضم الرئيس أمين الحافظ ومجموعة من المفكرين البعثيين، أمثال مؤسس البعث ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار من جهة أخرى. في 14 شباط (فبراير) 1966، أصدرت "القيادة القومية" قراراً بإعادة تشكيل المجلس الوطني للثورة الذي تشكّل سابقاً في عام 1965، والهدف من ذلك استبعاد شخصيات القيادة القطريّة. هذا في الظاهر، أما في العمق، فكان ثمة صراع طائفي بدأ يولد ويتغذى منذ إتمام انقلاب عام 1963، هو صراعٌ سنيّ – علويّ على مواقع الحكم وإداراته. فالثنائية الناصريّة – البعثية التي نجحت في عام 1963 في الانقضاض على الحكم حملت في عمقها امتدادات طائفية ظهرت أكثر مع بناء الضباط العلويين كحافظ الأسد وصلاح جديد مجموعات عسكريّة قويّة موالية لهما من الأغلبية العلويّة. وتجلّى الصراع مع وصول صلاح جديد إلى رئاسة الاركان في عام 1965. وبعد ذلك، أصبح المشهد أوضح مع بروز تكتلين داخل الحكم: الأوّل عمقه سنيّ مع أمين الحافظ، والثاني علويّ مع صلاح جديد وحافظ الأسد. بين الشحن الطائفي واستعدادات القيادة القطرية من جهة، وقرارات القيادة القومية من جهة ثانية، حصل انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966 بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، وأُطيح الرئيس أمين الحافظ ومعه القيادات التاريخية لحزب البعث، أمثال المؤسس ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار، وتم نفيهم إلى خارج البلاد. تولى صلاح جديد منصب أمين عام مساعد للقيادة القطريّة لحزب البعث العربي الاشتراكي، وتولى حافظ الأسد وزارة الدفاع. أُقصي عدد كبير من الضباط السُنّة، واستُبعد أيضاً سليم حاطوم من مكسب استحقه آنذاك بفعل مشاركته الفاعلة والأساسية إلى جانب جديد والأسد في تحقيق الانقلاب. لم يقبل حاطوم بالحالة الجديدة، وراح يستعد لأمر ما قد يعيده إلى المشهد، بالتعاون مع أبناء طائفته من الموحدين الدروز، بهدف الانقضاض على ثنائية جديد – الأسد. لكنه لم ينجح، وأُجبر على ترك سوريا إلى الأردن. عاد إلى سوريا بعد حرب 1967، فألقي القبض عليه وأُعدم رمياً بالرصاص. لم تسلم سوريا من "نكسة" 1967، إذ خسرت الجولان والقنيطرة. مع ذلك، استمرّت ثنائية جديد – الأسد بالانقضاض على الحكم داخل سوريا، وتوسّع نفوذها مع سيطرة صلاح جديد على الحزب والحكومة، في ما اختار حافظ الأسد السيطرة على الجيش.

انفصال الثنائية والصراع الأخير
 
 في عام 1970، وعلى خلفيّة دخول الجيش السوري إلى الأردن لحماية الفدائيين الفلسطنيين بطلب من صلاح جديد، وعدم مساندة القوّات الجوّية السوريّة للقوّات التي دخلت إلى الأراضي الأردنيّة، بطلب من حافظ الأسد آنذاك، كان الخلاف واضحاً بين جديد والأسد، وبدأت الهوّة تتسّع بين الرجلين. قبل ذلك، لم تكن الأمور بين جديد والأسد على ما يرام، ونشبت خلافات عدّة حول السياسات العامّة للدولة وبرامجها الاقتصاديّة. كما أراد جديد اعتماد برنامج بعثي عقائدي في الإدارة، بينما أراد الأسد تخطي بعض الخلافات القديمة داخل سوريا باستيعاب بعض بقايا القوى السياسية وبناء علاقات جديدة من أجل المستقبل. بالتوازي مع هذه التباينات بين الرجلين، كان الأسد يعمّق علاقاته داخل الجيش والقوى المسلّحة، ولم يتنبّه جديد إلى أن القدرة العسكريّة في تلك المرحلة أقوى من السلطة السياسية ومكاسبها في الحكم. في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، انقلب حافظ الأسد، بالتعاون مع مصطفى طلاس رئيس الأركان آنذاك، على صلاح جديد وحوّل البعث إلى أداة لحكمه تعتليها القوى المسلّحة التي يسيطر عليها. لم يكن صلاح جديد يعلم أنه سينتهي سجيناً في سجن المزة في عام 1970، وحتى وفاته في عام 1993. ظن صلاح جديد، الذي قَبِل بثنائية مع الأسد قضت في عام 1966 على مفكري البعث ومؤيدي الناصريّة من السوريين، أنه سيكون شريكاً في الحكم في مرحلة ما بعد الانقلاب المشترك، وكان يحلم ببناء سوريا على قياس أفكاره وتطلعاته. وفور تسلّمه والأسد مواقع أساسية في الحكم، تسلّل الصراع إلى "المشترك" الذي جمعهما في محطات عديدة سابقة. وبعد ذلك، استكمل حافظ الأسد حكمه على سوريا في نظام حديديّ ركائزه التخلّص من أخصامه في أقبية السجون السوريّة، واختصار الحياة السياسية في سوريا بقراراته وبشخصه، بالتعاون مع مجموعته الخاصة في الحكم التي قدّمت له الطاعة المطلقة طيلة حضوره في السلطة، حتى وفاته في عام 2000.

انقلابات ما بعد الاستقلال

- 30 آذار (مارس) 1949: انقلب حسني الزعيم على رئيس الجمهوريّة شكري القوتلي
- 13 آب (أغسطس) 1949: انقلب سامي الحناوي على حسني الزعيم
- 19 كانون الأول (ديسمبر) 1949: انقلب أديب الشيشكلي على سامي الحناوي
- 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1951: انقلب أديب الشيشكلي على تكليف ناظم القدسي بتشكيل الحكومة
- 25 شباط (فبراير) 1954: انقلب فيصل الأتاسي على أديب الشيشكلي في الشمال السوري
- 28 أيلول (سبتمبر) 1961: انقلب عبد الكريم النحلاوي على "الوحدة" وأعلن الانفصال عن مصر
- 8 آذار (مارس) 1963: انقلب بعض الناصريين والبعثيين على الرئيس ناظم القدسي
- 23 شباط (فبراير) 1966: انقلب صلاح جديد وحافظ الأسد على الرئيس أمين الحافظ والقيادات البعثية مثل ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار
- 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970: انقلب حافظ الأسد على صلاح جديد وسيطر على الحكم في سوريا

البعث وتسللّه إلى الحكم

- 1958: أيّد حزب البعث الوحدة بين مصر وسوريا في جمهورية عربيّة متحدة
- 1961: أيّد حزب البعث الانفصال عن مصر لينقلب في ما بعد على الانفصال
- 1963: استفاد من انقلاب 8 آذار (مارس) ليدخل إلى السلطة
- 1966: انقلبت القيادة القطرية في حزب البعث على شركاء الأمس من الناصريين وعلى القيادة القومية في الحزب
- 1970: انقلبت القيادة القطرية على نفسها مع انقلاب حافظ الأسد على صلاح جديد


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium