كان مضيفي الأميركي يهمس وهو يتكلم عن سطوة اللوبي الإسرائيلي على دوائر صناعة القرار السياسية والمالية والإعلامية.
عجبتُ، لأن الزاوية الهادئة التي كنا نجلس فيها في نادي أكاديمي بواشنطن بعيدة عن الأسماع... ولأنه كأستاذ علوم سياسية في جامعة أميركية مرموقة يتمتع بمساحة واسعة من حرية الرأي والتعبير مع حصانة أكاديمية يحلم بها العالم الثالث.
لاحظ تعجّبي، فأوضح بما معناه "الجدران لها ودان"، وتهمة معاداة السامية "موس على كل الروس".
ذكّرني ذلك بلقاء آخر خلال جولة في نفس الفترة، التي أعقبت هجمات ١١ سبتمبر الإرهابية مع عدد من الإعلاميين العرب بضيافة الخارجية الأميركية، وشملت عدداً من الولايات، منها ولاية واشنطن وعاصمتها سياتل.
كان مستضيفنا مدير تحرير صحيفة كبيرة، ومشرفاً على قسم الرأي. بعد حوار طويل حول مواقف الصحيفة السياسية تجاه قضايا الشرق الأوسط، بدا محرجاً وهو يقول: اعذروني، فالصحافة الأميركية نشاط تجاريّ، يقوم على مبادئ السوق الحرة، ومهما حاولنا فصل السياسة التحريرية عن الإدارة المالية، ففي نهاية المطاف الإعلانات والاشتراكات هي التي تسدّد فواتيرنا وتدفع رواتبنا.
اخترت أن أواصل الحوار معه لاحقاً لأستوضح أكثر عمّا عناه، فلمّا اطمأن إلى أنني لن أنشر أقواله باسمه، روى لي موقفاً مرّ به. فبعد الاجتياح الإسرائيلي لجنين، عام 2002، قرّرت إدارة الصحيفة أنه لا يمكن تجاوز الحدث أو التغاضي عن التجاوزات القانونية والإنسانية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية. مع ذلك، حرصت على توثيق كلّ ما تنشره، ونسبته إلى وكالات الأنباء والمنظّمات الدولية والمراسلين الأميركيين والدوليين على أرض الحدث، كما استعانت بخبراء وباحثين مرموقين في جميع المجالات ذات الصلة. ونقلت وجهة النظر الإسرائيلية بنفس القدر.
"مرت أيام ثمّ أسابيع من دون ردة فعل، فحسبنا أننا نجونا. وذات صباح، انفتحت أبواب الجحيم. انهالت الرسائل الغاضبة والمحتجّة على موقف الصحيفة المعادي لإسرائيل واليهود من كافة أنحاء البلاد، ولم تتوقف لأسابيع متتالية. وهنا، لاحظت أن الصيغة تكاد تكون واحدة، ممّا يُوحي بأنها حملة منظّمة؛ وأن المدن التي وردت منها الرسائل لا توزّع فيها الصحيفة.
وفي نفس الوقت، لاحظت الإدارة كثرة إلغاء الاشتراكات والإعلانات من جهات عديدة، بعضها على الأقل معروف بارتباطه بإسرائيل أو بالجالية اليهودية. ولم يتوقف هذا النزيف حتى توقّفنا تماماً عن تغطية الحدث. ولحسن الحظ، كانت القوات الإسرائيلية تنسحب والاهتمام الإعلامي يتلاشى.
لم نعتذر حينها، ولم نغيّر رأينا كجهاز تحرير، ولكننا تعلّمنا درساً قاسياً، وقرّرنا الابتعاد عن قضايا الشرق الأوسط الشائكة حتى لا نجد أنفسنا أمام خيار التنازل عن حرّيتنا وضمائرنا أو إفلاس صحيفتنا وملاحقتنا قضائياً.
بعد عودتنا إلى واشنطن، رتّبت لنا الخارجية زيارة إلى الكونغرس حيث التقينا عضواً في لجنة الشؤون الخارجية. واجهناه بالتحيّز الأعمى لإسرائيل، وسألته عمّا إذا كان الدعم المالي والانتخابي للمرّشحين هو السبب. تردّد قليلاً، ثمّ صارحني بأنه عندما يصوّت أيّ عضو في مجلس النواب أو الشيوخ لصالح العرب، فإنه لا يلقى ولا حتى اتصال تأييد من سفير عربي أو رسالة شكر من الجالية العربيّة.
أما إذا كان اللوبي الإسرائيلي فهم موجودون أصلاً قبل التصويت للدفاع عن وجهة نظرهم، ثم يرصدون التصويت لمعرفة مَن صوت معهم أو ضدهم. ويتلقّى المؤيّد لهم الدعم والتأييد، ويتعرّض مَن عارضهم للتوبيخ والتأنيب والحرمان من الدعم.
ومع ذلك، فإن عدداً من المشرّعين عبّروا عن موقفهم، وتحمّلوا النتائج، وبعضهم يهود ليبراليّون، لا يُمكن اتّهامهم بمعاداة السامية. سؤالي لك: أين أنتم من قضاياكم وحقوقكم؟ وماذا تفعل الجاليات العربية والمسلمة، ومنهم رجال الأعمال والسياسيون والأكاديميون والمحامون؟ وماهي مهمة بعثاتكم الدبلوماسية في واشنطن إذا لم تشمل الدفاع عن قضاياكم والمطالبة بحقوقكم العادلة؟
تذكرت ما توصلت إليه وما أوصيت به في رسالتي للدكتوراه في كلية الصحافة بجامعة أوريغون، عام 1999، وكانت عن التحيّز الإعلامي الأميركي لإسرائيل، وشملت تحليل نصّيّ للتغطية الإخبارية والرأي لثلاث صحف كبرى: نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ولوس أنجلوس تايمز، لثلاثة حروب بين العرب وإسرائيل، في ١٩٦٧ و١٩٧٣ وغزو لبنان في ١٩٨٢. وقتها، كان حرص اللجنة المشرفة على الرسالة شديداً ودقيقاً تحسّباً لأيّ اتهامات او ملاحقات قانونية.
توصلت وقتها إلى أن التقصير العربي والمسلم في مواجهة التغلغل الصهيونى عبر عقود جاء نتيجة غياب الدافع والتخطيط والتنسيق. فمن ناحية، هناك التوافق والتكامل بين لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) ومجلس رؤساء المنظمات اليهودية، وهما أكبر وأقوى جماعات الضغط السياسي في تاريخ الولايات المتحدة، والمنظمتان الوطنيتان الوحيدتان اللتان يحق لهما إعلان ولائهما لدولة أجنبية، والدفاع عن مصالحها، ولو على حساب المصلحة الأميركية، وأن تقدّما العون المالي والتنظيمي والتسويقي للمرشّحين في الانتخابات للسلطتين التنفيذية والتشريعية، وتوجّه الناخبين علناً للتصويت لمن تختارهما.
وعلى الكفّة المقابلة هناك جاليات وسفارات ومصالح وأعمال لـ٢٣ دولة عربية، و٥٧ دولة مسلمة، ويكاد لا يكون عندهم تنظيم أو تحالف أو حراك يستفيد من آليات النظام الديمقراطيّ، أو ينشط في المواقع المؤثرة، كالإعلام والتعليم، المال والأعمال، لخدمة قضاياه.
وفي لقاء آخر، ومناسبة أخرى، في مدينة بوسطن، اعتذر عضو عربيّ في الحزب الديمقراطي بأنّ المهاجرين العرب والمسلمين كانوا أشبه باللاجئين الهاربين من أنظمة قمعيّة وظروف معيشية قاسية، وظنّوا أنهم بالتركيز على شؤون حياتهم، والتفوق في مجالات تخصصهم بعيداً عن السياسة، وبالتأكيد على انتمائهم وولائهم لوطنهم الجديد، سيحمون أبناءهم من التجارب المريرة التي مرّوا بها، وسيندمجون بالكامل في المجتمع الأميركي. بدا ذلك ممكناً حتى جاءت أحداث سبتمبر لتوقظ العنصرية في البلاد، ولِتمايز بين سكّانها. واكتشفت الجاليات العربية والمسلمة أنها بحاجة إلى المشاركة في اللعبة السياسية لتحمي نفسها. وهكذا بدأت المشاركة الحزبية، خاصة مع الحزب الديمقراطي القائم على التنوّع العرقيّ والدينيّ، بعيداً من التعصب الديني، أو هكذا يُفترض. وهي بداية متواضعة ومتأخّرة لكنها في تصاعد.
هكذا كان المشهد في مطلع الألفية الثانية. فكيف هي الحال بعد مرور قرابة ربع قرن؟ هل أصحاب القضية العادلة ما يزالون ضعفاء متفرّقين، وأصحاب القضية الظالمة أقوياء متحدين؟ وهل سيف قانون "معاداة السامية" ما يزال مسلطاً على كلّ ضمير وفكر حرّ؟ وهل المنصفون ما زالوا يهمسون في زوايا الصحف والجامعات، ولا تجد آراؤهم طريقها إلى الأسماع أم أنّ طوفان غزّة غيّر كلّ شيء؟
حديث طويل أتركه للمساحة المقبلة.
@kbatarfi