النهار

أطفال غزة المبتورون يحاولون طرد أشباح الحرب في قطر
المصدر: "أ ف ب"
يتيمة وبرجل مبتورة باتت "في الجنة" كما تقول، تتجول الطفلة مريم أحمد على كرسيها المتحرك في أروقة مجمع الثمامة في الدوحة للجرحى والعائلات الذين تم إجلاؤهم من قطاع غزة، وعلى وجهها نظرة استغراب سرعان ما تتحول إلى ابتسامة بمجرد رؤية شخص تعرفه.
أطفال غزة المبتورون يحاولون طرد أشباح الحرب في قطر
مريم أحمد البالغة من العمر ست سنوات، والتي بُترت ساقها، في الصورة في مجمع الثمامة، المخصص لإيواء العائلات النازحة من قطاع غزة، في الدوحة (3 تموز 2024 - أ ف ب).
A+   A-
يتيمة وبرجل مبتورة باتت "في الجنة" كما تقول، تتجول الطفلة مريم أحمد على كرسيها المتحرك في أروقة مجمع الثمامة في الدوحة للجرحى والعائلات الذين تم إجلاؤهم من قطاع غزة، وعلى وجهها نظرة استغراب سرعان ما تتحول إلى ابتسامة بمجرد رؤية شخص تعرفه.

أُجليت مريم البالغة من العمر ست سنوات من القطاع المحاصر إلى العاصمة القطرية في شباط الماضي بعدما دُمّر منزلها بغارة إسرائيلية أودت بوالديها وشقيقها الأصغر ووتركتها مبتورة الساق اليمنى.

تجلس على كرسيّها المتحرك الجديد وتروي ببراءة ما تذكره من الأحداث، مع حالة نكران في البداية: "كنت أذهب إلى المدرسة وقدمت امتحانات جيدة. كنت سعيدة. أحب غزة".
 


وتضيف: "طلعت علينا الزنّانة (المسيرة) قصفتنا ووجدت نفسي تحت السرير. انصبت وخرج دم من فمي وعيني وأذني وكانت الشظايا في كل جسمي".

لكنها سرعان ما ترفع فستانها الملون المنقوش بالزهور لتظهر ساقها المبتورة من فوق الركبة قائلة "رجلي في الجنة، مع ماما وبابا".

مريم واحدة من ألفي غزيّ مقيم في المجمع الواقع في جنوب العاصمة القطرية مع عائلاتهم، ممن هم في حاجة طبية ماسة ويسعون الآن للتكيّف مع حياة جديدة بعيداً عن الحرب المدمرة المتواصلة منذ عشرة أشهر في القطاع المحاصر.

سافرت مريم إلى قطر من غزة عبر مصر مع خالتها، الناجية الوحيدة فاطمة فرج الله (20 عاماً) التي تقول إن "مريم الآن أفضل نفسياً".

لكن ذكرى ذلك الصباح لا تزال تطاردهما، حين دمّر صاروخان المنزل الذي تقاسمتاه يوماً.

تروي فرج الله بابتسامة مرتبكة وهي تفرك يداً بالأخرى، وقع ذلك اليوم قائلة "عند الساعة التاسعة صباحاً، تعرض منزلنا لقصف بصاروخين على الغرفة التي يتواجد بها إخوتي وأولادهم".

وتضيف "خرجت من الغرفة فرأيت محمد شقيق مريم مضرجاً بالدماء الأشلاء على الجدران. في البداية وضعوا مريم جنب الشهداء، لم تكن تتحرك ولا صوت لها. فجأة سمعت صوتاً يقول +خالتي+".

بقيت مريم، وهي كما تقول خالتها طفلة أنابيب انتظر أهلها عشر سنوات لإنجابها، لمدة شهرين في المستشفى في قطر، وتلقت معظم علاجها في مستشفى حمد العام في الدوحة، وتطلّبت حالتها ثلاث عمليات جراحية لإكمال بتر ساقها.
 
 

كان تكيّف مريم مع الحياة في الإمارة الغنية بالغاز مربكاً في كثير من الأحيان، وفق فرج الله التي تقول إنها "في الليل تطرح أسئلة كثيرة".

- إعادة تأهيل -
حتى بالنسبة للخالة، فإن التغيير الجذري في أسلوب الحياة بعد ما يقارب أربعة أشهر في قطر قد يكون ثقيلاً.

تتساءل فرج الله "هنا كل شيء موجود. لماذا غزة ليست كالدول الأخرى؟ لماذا هي محتلة؟ هي بلد صغير، لا تحتاج لذلك كله".

في أواخر حزيران، أعلن المفوّض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني أن الحرب الدائرة في قطاع غزة تؤدي إلى فقدان 10 أطفال بالمعدل ساقاً أو ساقين كل يوم، ما يعني أن نحو ألفي طفل فقدوا طرفاً حتى ذلك التاريخ.

اندلعت الحرب إثر شنّ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هجوماً غير مسبوق داخل إسرائيل في السابع من تشرين الأول أسفر عن مقتل 1197 شخصاً، معظمهم مدنيون، بحسب حصيلة لفرانس برس تستند إلى أرقام رسمية إسرائيلية.

واحتجز المهاجمون 251 رهينة، ما زال 111 منهم في غزة، بينهم 39 يقول الجيش الإسرائيلي إنهم لقوا حتفهم.

وتردّ إسرائيل بحملة عنيفة من القصف والغارات والهجمات البرّية أدّت إلى مقتل ما لا يقلّ 39623 شخصاً في قطاع غزة، بحسب وزارة الصحة التابعة لحماس.

يدير موسى محمد، رئيس قسم التعليم الخاص في مؤسسة حمد الطبية، عيادات العلاج الجماعي داخل مجمع الثمامة التي تتولى معالجة 190 طفلاً مسجلاً تتراوح أعمارهم بين ثلاث وست سنوات.

يوضح محمد لفرانس برس أنّ الجلسات، التي تشبه ظاهرياً فصول الحضانة، تشكل "ركيزة مهمة" لإعادة التأهيل وتشمل العلاج بالفن والتواصل الاجتماعي، فضلاً عن السماح لفريقه بالاتصال بالأسر وإرسال تقارير للمتخصصين الطبيين ذوي الصلة بتطور الحالات.

يقول إنه قبل ثلاثة أشهر، كان الأطفال عرضة لنوبات عنيفة ولم يكن بإمكانهم الجلوس ساكنين، وكان بعضهم "يضربون الأبواب ويضربون الناس ويضربون الأطفال إلى جانبهم".

كان التقدّم شاقاً، لكن محمد يشير إلى أن "سلوكهم تغيّر من العدوانية ورفض الروتين الذي نحاول بناءه... والآن يريدون الحضور كل يوم".

ويضيف "هذا يمنحني المزيد من الثقة في أن النتائج تتحسن".

- "أعود إلى غزة" -
مع حلول الغسق، عندما تغرب الشمس الحارقة عن المباني السكنية البيضاء ذات الطابع الرسمي في المجمّع، وتبرد حرارة الصيف القطري، يغامر السكان بالخروج.

ذلك المشروع السكني، الذي بُني في الأصل كمكان لإقامة مشجعي كأس العالم 2022 في قطر، بات الآن مقراً لألف شخص تم إجلاؤهم، 300 منهم مبتورو الأطراف.

وذلك يعني أن من بين أولئك الذين يلتقون في الشارع، أو يتوجهون إلى المسجد أو يلعبون مع الأصدقاء مع أفول ضوء النهار، كثيرون فقدوا أطرافهم.

منهم كريم الشياح (10 سنوات)، الذي يستقل دراجته الهوائية في محيط المجمع بسهولة على الرغم من فقدانه ساقه اليسرى.

داخل الشقة التي يقطنها مع والدته وأخيه الصغير، يجلس كريم على كنبة رماديّة اللون، ويلفّ ساقه اليسرى المبتورة على رجله اليمنى، ويشاهد عبر يوتيوب مقتطفات فيديوهات من "تيك توك" لألعاب حربية وعسكرية.

يقول عن غزة "كانت الأمور طيبة. كنا نلهو في الخارج. فقصفوا مطعماً قربنا وتطايرت الشظايا. اختبأت داخل برميل وأصابتني شظية".

توضح والدته صابرين الشياح أن الإصابة "غيّرت شخصية كريم" ذلك أنه "عانى من البتر لعدم وجود مواد تخدير ومسكنات في غزة".

وتضيف "صار عصبياً أكثر، أحياناً كان يحبس نفسه في الغرفة"، ومع القدوم إلى قطر عُرض "فوراً على طبيب نفسي والآن بات أفضل. للأمانة التعامل مع الأطفال هنا إيجابي جداً، يتكفلون بالعلاج والمتابعة".

كريم نفسه يقول إن "حياتي لم تعد طبيعية. عندما ألعب بالدراجة الهوائية، أحتاج حبلاً لأربط رجلي بالدواسة. أشتاق لأصحابي، هم سبعة وأحدهم استشهد".

رغم ذلك، يوضح "هنا نحن مرتاحون، يهتمون بنا ويجعلوننا نلعب. لكنني أتمنى أن أعود إلى غزة إذا توقفت الحرب".




الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium