النهار

نورُ طرابلس وعراقة تاريخها (صور)
مدخل قلعة طرابلس الأثرية.
A+   A-
يُحدّثنا التاريخ عن طرابلس كإحدى مدن الشرق الأوسط الأكثر عراقة، والمحطّة الجامعة لعابري بلاد الشام، موطئ قدم المحاربين والسلاطين. حاول المؤرّخون توثيق معالم المدينة وآثارها على مرّ العصور، لكنّهم غفلوا عن تنسّم عبقها ومعاينة بريقها عن قرب.

ليست الجغرافيا سبباً للسهو عن قصد الفيحاء، إلّا أنّها كانت زيارتي الأولى، بعد سنوات طويلة من اكتشاف المدينة مِن بُعد، عن ألسن زوّارها، وتقارير الأخبار، وتضّاد صور الأمان والفوضى.
 

سمعتُ أحدهم يقول إنّ "الفقر ليس العائق أمام السياحة، إنّما الجهل". تزداد طرابلس قيمة بناسها. حفاوة استقبالهم تُزيل تعب المسافة من بيروت إلى الشمال، وجُهد السير تحت شمس حارقة، تبرّده ابتسامة بائع عصير جوّال في أسواق طرابلس القديمة، وكوب شراب التوت الطبيعي، أعدّها بلطف، متناسياً عناء يوميّاته بضع دقائق أمام الزوّار.

سَنحت فعاليّات "أهلا بهالطلة" هذا الصيف بالتعرّف إلى مدينة بقيَت في العتمة طويلاً، بعدما عانَت أزمات سياسية وأمنية ومعيشية عدّة، صبغتها أمام الرأي العام بلون واحد، حتى صارت عناوين حوادث الدمّ اعتياداً يوميّاً. لكن الصورة ليست بأكملها، فلطرابلس قلعة أثرية من الأكبر في لبنان، بطول 136 متراً وعرض يصل إلى 70 متراً. بناها الصليبيون في أوائل القرن الثاني عشر، وبقيت إلى اليوم حصناً للمدينة وأهلها، متوسّطة منطقتَي القبة والميناء، وعند بابها جنود الجيش اللبناني، بعتادهم الكامل، وأهبّة استعدادهم لتلبية الواجب.
 
 
أبراج القلعة وكهوفها وحصونها تروي تاريخ حضارات متعاقبة وطأت أرض طرابلس، وتركت آثاراً عريقة في داخلها، ككنز أثريّ ومعرفيّ للجيل الجديد، فالحاضر لا يُبنى بلا ماضيه، والأمّة التي لا تُدرك تاريخها واقعة في الجهل حتماً.

يأسف من يزور قلعة طرابلس لتهميش بعض معالمها التاريخية من المعنيين في وزارة الثقافة، فلمن لا يعرف، تحوي القلعة على حجارة فاطميّة نادرة متروكة في العراء، محفور عليها اسما محمّد وعلي، وتعود إلى أكثر من ألف عام، فيما المارّ من أمامها لا يعي قيمتها، في ظلّ إهمال رسميّ قد يكون متعمّداً أحياناً، سيؤدّي في النهاية إلى طمس معالم التاريخ.


لأسواق طرابلس القديمة رونق خاص، فهي الأسواق الوحيدة التي حافظت على تكاملها حتى القرن الحادي والعشرين. أزقة متّصلة من أسواق الثياب إلى الصاغة فالحرفيين وخان الصابون، حيث الروائح الطيّبة تدلّ على المكان بلا أسهم ولا شواهد. يستطيع الداخل إلى خان الصابون تنشّق الطبيعة، فالصابون هنا يُصنع يدويّاً أحياناً ويُستعان بآلات حديثة أحياناً أخرى، إلّا أنّ الثابت هو مصدره الطبيعيّ، من نبات الأرض إلى أبناء الأرض.

 
لا يمكن لزائر طرابلس إلّا الوقوف أمام باب الجامع المنصوريّ كمحطّة أساسيّة للتعرّف إلى أكبر جوامع لبنان وأقدمها، والمشهور بنقوشه الكتابية، وقد نُقش عند مدخله الشماليّ رسالة للتعريف عن تاريخ تشييده بتوجيه من السلطان المملوكي المنصور قلاوون عام 1294.


في التاريخ الحديث لعاصمة الشمال، مكان استثماريّ ضخم جدّاً، صار ملفّه طيّ النسيان، وهُجر مثلما هُجرت مشاريع وطنية أخرى على مرّ عهود سياسية نخرها الفساد. "معرض رشيد كرامي الدوليّ"، قيمة معمارية وثقافية واقتصادية كبيرة لطرابلس ولبنان والمنطقة، بدأ بناؤه عام 1962 برؤية مستقبلية للمهندس البرازيليّ الأصل أوسكار نيماير، والذي أشرف على بناء معارض مشابهة له في مدن عالمية كبرى، وكان الهدف أن يصير للبنان معرض متطوّر، ينافس معارض العالم، كـ"معرض دمشق الدوليّ" في سوريا، و"معرض إزمير الدوليّ" في تركيا، كمثال عن بلدَين قريبَين من لبنان.

على مساحة ضخمة جدّاً، توازي ثلث مساحة طرابلس، مكان جاهز للاستثمار، بقاعاته ومسارحه وحدائقه وتفاصيله المعمارية المميّزة، وسيشكّل إعادة إحيائه، بقرار سياسي شجاع، نهضة للمدينة ولأهلها واقتصادها، تُعيد السوق العربية والأجنبية إلى شمال لبنان، من حيث انطلقت في ستينيات القرن الماضي.
 


هنا طرابلس. واحدة من أجمل المدن السياحية في لبنان. لا يغادر الداخل إليها مشبعاً من تفاصيلها، ولا يكتفي بزيارة أولى، إذ لا يزال الكثير ليُكتشف بين حاراتها، والكثير ليُكتب عن يوميّات سكّانها وكفاحهم، إلّا أنّ الثابت اليوم أنّ لطرابلس حياةً تستحقّها ونوراً لا ينبغي أن يخفت.
 

 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium