النهار

كوسبا: نفحاتٌ من التاريخ وعنوان للسياحة الدينيّة
المصدر: "النهار"
كوسبا: نفحاتٌ من التاريخ وعنوان للسياحة الدينيّة
A+   A-
 
كتبت رولا حميد
 
تشكِّل بلدة كوسبا الكورانية مركز مواصلات لمختلف المناطق المحيطة بها، كبشري، وزغرتا، وطرابلس، وأنفة، وشكا، إضافة إلى موقعها الاستراتيجي المطل على مناطق بعيدة من ثلاث جهات. فيها كنوز أثرية جاذبة لمتتبعي التطورات التاريخية باحتضانها للعديد من المنشآت الدينية والآثار العائدة إلى حقب تاريخية شديدة القدم ومنها العصر الفينيقي.
 
 
قاصد البلدة لا بد أن يستقر في ساحتها لتناول كأس لذيذة من البوظة التي تتميز بها البلدة، والتي يقصدها كثيرون خصيصاً بسبب هذه الميزة. لكن بعد برودة في نهارات الصيف الحارقة، يمكن للمرء أن يجول في البلدة، على معالمها المختلفة، وأبرزها التل الذي يعلوها، ويظهر من بعيد، ويطل على سهول الكورة الخضراء بملايين أشجار الزيتون.
 
البلدة التراثية تتمدد على منحدر التل الذي يعلوها، ويعبر فيها شارعها الرئيسي السابق، وكان يؤدي إلى منطقتي بشري وإهدن، لكن نشوء الاوتوستراد بدءاً من شكا بلوغاً إلى إهدن وبشري، يعبرها في منتصفها، حوّل السوق القديمة إلى سوق محلية مهمشة، تزخر بالمعالم التراثية اللبنانية، والأسواق الضيقة، والمحلات ذات الأبواب العالية، والمتلاصقة، وكل مبانيها من الحجارة البلدية المقصوبة. 
 
شكّل موقع كوسبا عامل جذب لكثير من الشعوب، والغزاة، فهي نقطة حساسة للمراقبة بهدف الدفاع عن النفس، لذلك، استُخدم الموقع منذ عصور قديمة، منها العصر الفينيقي حيث اكتُشفت فيها آثار فينيقية متعددة، وأخرى تعود لمختلف الحقب التي حكمتها شعوب متنوعة.
 
يعزز موقع كوسبا الاستراتيجي، عبور نهر قاديشا على حافتها الشمالية، فقد شكّل النهر عازلاً لجهة طويلة من البلدة، يعيق تقدم الغزاة المشاة. بينما أمّنت مياه النهر، يوم كانت نظيفة قديماً، مصدر مياه للريّ والشفة للمقيمين فيها، وكانوا قليلي العدد في ذلك الحين. 
 
ويلفت النظر في كوسبا وجود عدد كبير من المواقع الدينية من كنائس وأديرة، جلّها يعود لأبناء الطائفة الأرثوذكسية التي تشكّل الغالبية المطلقة في قضاء الكورة المكوَّن ممّا يناهز الخمسين قرية وبلدة، وأبرز المواقع الدينية دير مار متر الذي بناه رهبان أرثوذكس في القرن الحادي عشر، وكنيسة القديسة بربارة التي تعود إلى العهود المسيحية الأولى، ودير مار يوسف، وكنائس متعددة تعود إلى القرن الحادي عشر ميلاديّ منها كنيسة بندلايمون، وكنيسة سرجيوس وباخوس، والسيدة، ومار الياس، ومار يعقوب، ومار يوسف المارونية وهي الأحدث وتعود لسنة ١٩٠٠.
 
كنيسة مار ضوميط القديمة.
 
وفرة المواقع الدينية تؤشّر في جانب منها إلى أكثر من هدف روحي. وجودها الوفير مؤشر للأهمية الاستراتيجية، حيث توجد ثلاث تلال على شكل مثلث، يقع على قمة كل منها دير، كانت دلالة على الوصول إلى نقطة تقاطع المواصلات النازلة من بشري وأهدن، عابرة الطريق العام الموصل في بُعده الأقصى إلى بيت المقدس في فلسطين. والغزاة الصليبيون كانوا يفضلون اختيار طريق كوسبا، وعندما كانوا يصلون كانوا يشاهدون التلال الثلاث، فيتأكدون أنهم وصلوا إلى الطريق الصحيح الموصل إلى بيت المقدس. 
 
المواقع الدينية على هذه التلال الثلاث هي: دير مار توما، ودير القديسة بربارة، ودير مار ضوميط الذي تُبنى قربه أكبر كاتدرائية أرثوذكسية في الشرق حالياً.
 
دير مار توما.
 
ويتحدث كتاب "كوسبا في ماضيها وحاضرها" للدكتور حنا ساسين عن الجذر التاريخي الغساني لأبرز العائلات التي وفدت المنطقة. ويقدّر ساسين عمر كوسبا بما يزيد على ألفي عام، بدليل المغاور القديمة التي عثر فيها على هياكل بشرية وأوانٍ فخارية. 
 
وثمة صخرة ضخمة يطلق عليها اسم "التمساح" لا بد للسياح من زيارتها، وهي تقع في الجزء الأعلى من البلدة في طريق متفرع من الطريق العام المؤدي إلى بشري وإهدن.
 
كاتدرائية مار ضوميط الحديثة.
 
وعلى مقربة منها، وفي بلدة عين عكرين الملاصقة، يقوم معبدان رومانيان، تتقاسم كوسبا وعين عكرين وجودهما فيها. بينما يطل دير سيدة حماطورة على كوسبا، ويتبع لها ولا يمكن الوصول إليه إلا منها بطريق "قادومية" متعرجة شديدة الانحدار، لكن يفصله عن البلدة مجرى نهر قاديشا العابر فيها. 
 
تطورات حداثية
 
الاوتوستراد الذي شُقَّ من الساحل في شكا إلى كوسبا، ومنها إلى بشري وقرى قضاء زغرتا، أمّن ظروفاً نهضوية للبلدة، ففتحت المحلات التجارية الحديثة حول الأوتوستراد منذ التسعينيات، وما هي إلا سنين قليلة حتى انقلب الاوتوستراد من طريق عبور عريض، إلى سوق مدينيّة حديثة ومتنوعة، ففُتِحت الكافيتيريات والمحلات التجارية المختلفة؛ وما يمكن قوله إن قاصد كوسبا يمكن أن يجد فيها كل احتياجاته، وبات الاوتوستراد، والسوق الواقعة على حافتيه، شرياناً حيوياً بعث حياة جديدة للبلدة.
 
دير القديسة بربارة.
 
وبسبب اتساع حركة البناء الحديثة، يجد قاصدو كوسبا مكاناً مناسباً لإقامتهم، ومنهم من جاء من مناطق أخرى ليقيم في البلدة؛ وبين التسعينيات واليوم، تضاعف عدد المقيمين، وكذلك عدد البيوت والشقق. 

اقرأ في النهار Premium