فرح نصور
دوما جوهرة سياحية تراثية ثقافية دينية في قلب قضاء البترون (شمال لبنان). بعد أن راجت السياحة في البلدة، في السنوات الماضية، شكّل فوزها بجائزة أفضل البلدات السياحية في العالم لعام 2023، من قِبل منظمة السياحة العالمية، دافعاً لنا إلى الغوص في تراثها واكتشاف جمالها.
انطلقنا من بيروت، فاستغرق وصولنا إليها نحو ساعة ونصف الساعة، في رحلة دامت نحو ساعتين، قضيناها بين تراثها العريق ومناظرها الخلّابة.
سوق دوما
تضمّ البلدة 33 معلماً تراثياً، أهمّها سوق دوما العتيقة، حيث كانت محطتنا الأولى. تعود معالم هذه السوق إلى العام 1850، لكنها لا تزال تحافظ على صورة القرية الحقيقيّة المثالية، وعلى طابعها التقليدي. التجوال فيها يعود بك إلى أيامها القديمة، عندما لُقبت دوما بـ"دوما البندر"، لدورها المحوريّ في التجارة والصناعة والحرف بين المناطق الساحلية مثل جبيل والبترون ومدينة بعلبك وسوريا. نتحدّث هنا عمّا يُسمّى بـ"سكة الشام" حيث كانت تمر القوافل.
تناولنا المناقيش على الصاج من أيدي سيّدة خمسينية كانت تخبز في السوق. بعدها، مررنا بالمحلّ الأشهر والوحيد لبيع البوظة العربية، "الزحلاوي"، الذي يعود عمره إلى عام 1957. يخبر صاحبه، ابن الجيل الثالث من العائلة، بأنّ أجداده ككثيرين، جاؤوا من مدينة زحلة البقاعية، واستقرّوا في دوما، وباتوا يُلقَّبون باسم مدينتهم.
خلال الجولة، ترى متاجر لبيع المنتجات الريفية مثل الزعتر وزيت الزيتون والحلاوة المحلية وراحة الحلقوم، التي تشتهر بها دوما. وتشتهر دوما على وجه الخصوص بالزيتون، إذ تعود هذه الزراعة في أرجائها إلى قرون خلت. وقد وجدوا أخيراً آثاراً تعود إلى العصر البيزنطي، تتمثل بمعصرة زيتون و12 جرّة إلى جانبها، إذ دوما كانت مأهولة منذ 1500 سنة.
إلى جانب الأطعمة، يعرض أصحاب الحرف اليدوية المعروفة في دوما أشغالهم الجميلة، مثل التشكيل والحفر على خشب الزيتون، وهي حرفة ابتكرها جهاد سميا ابن بلدة دوما، وهو الوحيد الذي يمارسها منذ أكثر من 25 عاماً.
في السوق أيضاً، دخلنا إلى السينما القديمة، التي افتُتحت في عام 1951، وكانت مكاناً شهيراً للاستراحة في ذلك الوقت، حيث عُرضت أفلام شهيرة مثل عنتر وعبلة.
تُدهشك فعلاً هذه السوق لما تحتويه من تنوّع. فكلّ ما بداخلها ومن حولها يؤكّد مركزيّة هذه البلدة تاريخيّاً. فمع ازدهار السوق في منتصف القرن الـ19، اضطرت متصرفية جبل لبنان إلى إنشاء ما أسمته بـ"كوميسيون بلدي" لإدارة شؤونها؛ لذا تُعتبر بلدية دوما من أوائل البلديات التي تأسّست في لبنان. يقع مقر البلدية في السوق أيضاً، إلى جانب مركز الشرطة. وعلى أبواب السوق، زرنا محكمة دوما التي أنشئت عام 1926 ولا تزال سجلاتها محفوظة وسارية المفعول حتى اليوم.
السياحة الدينية
إلى جانب السوق مباشرة، دخلنا إلى كنيسة سيدة النياح، وهي أكبر كنيسة لطائفة الروم الأرثوذكس في دوما. شيّدت عام 1610، وهي واحدة من الـ14 كنيسة تراثية في البلدة. أمّا أحدث كنيسة في البلدة فعمرها يرقى إلى 170 عاماً.
على بُعد أمتار، زرنا متحف المتروﭘـوليت أَنطونيوس بشير الذي كان منزلاً عائلياً قبل تحويله إلى متحف تخليداً لعطاءاته. عُيّن بشير مطراناً لأبرشية نيويورك وأميركا الشمالية من العام 1936- 1966، وأسّس معهد اللاهوت في جامعة "البلمند"، وترجم كتباً عديدة، منها كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، حيث رأينا رسائل أصلية من جبران لبشير، كان يرسلها إليه من الولايات المتحدة الأميركية. ومررنا بساحة البلدة إلى تابوت حجريّ من القرن الرابع الميلادي، يحمل نقشاً يونانياً.
الطعام الدوماني
كانت محطة الغداء لدى السيدة جمال معلوف، التي تستقبل الناس على ترّاس منزلها، وتقدّم الطعام الدوماني التقليدي منذ سنين عديدة للزوار والسياح الذين يتوقون للأطعمة الريفية. ذاع صيت طعام معلوف اللذيذ في كافة أنحاء لبنان، وعُرفت بشكل خاص بالطبق الذي تشتهر به دوما "المعكرون بثوم".
دخلنا مطبخ جمال وحضّرنا الطبق معها، وكان استقبالها، ككل الدومانيين، رائعاً وحاراً. الأكلة بسيطة جداً، وهي عبارة عن عجين مسلوق، يُضاف إليه معجون الثوم والحامض والزيت الذي تعدّه جمال ببراعة. إلى جانب هذا الطبق الدوماني، تناولنا الأطباق التقليدية الشهيرة، وعلى رأسها الكبّة والفتوش والحمص والبابا غنوج والبيض بقاورما. الطعام كان لذيذاً فعلاً، فهو مصنوع بحبّ على أيدي سيدة لا تحبّ الطهو فقط، إنّما تحب إظهار أجمل صورة عن دوما.
التراث يتكلّم في دوما
ودّعنا جمال، ووصلنا بالسيارة إلى أعلى دوما لنرى جمالها من الأعلى وبيوتها التراثية المرصوفة. إنها من البلدات القليلة في لبنان التي يجتمع فيها هذا العدد الكبير من هذه البيوت الجميلة. وقد حافظت البلديات المتعاقبة على هذه المعالم، عبر فرض معايير لبناء المنازل، وأن تكون من الحجارة والقرميد، مع 3 قناطر تشكّل واجهتها.
يعود أكثر من 200 بيت تراثيّ في دوما إلى السنوات ما بين عامي 1881 و1914. دخلنا إلى منزل عمره 120 عاماً، قد تحوّل الطابق السفلي منه إلى بيت ضيافة، أمّا الطابق العلوي فلا يزال يحافظ على أصالته. فأثاثه لا يزال على حاله من يوم تأسيسه، وكذلك رسوم سقفه التوسكانيّة وبلاط أرضيّته الإيطالي.
زرنا متحف دوما العصري، أو متحف الحرفيين، الذي يعرض تاريخ دوما عبر الزمن، كصور المهاجرين من دوما، والحرف اليدوية المحلية، والأعمال الحرفية التقليدية، وملابس وأكسسوارات المسرح التي كانت تُستخدم في مسرح دوما الشهير. وأحلى ما في هذا المتحف أنّه يظهر أهمّ صناعة اشتهرت فيها دوما وهي الحديد، فهي كانت تسمى بـ"دوما الحديد"، لأن الحديد كان يُستخرج من جبالها.
سياحة بيئية
وخلال مشوارنا، توقّفنا عند مسار "سكة الشام" عند أعلى جبال دوما، وهو مسار المشي، الذي بات معروفاً على مستوى لبنان في إطار السياحة البيئية، إذ يربط جبل دوما ببالوع بلعا في تنورين.
تزدهر في دوما هذه السياحة. وقد استُحدثت مسارات أٌخرى للمشي من محمية تنورين إلى بشعلة، ومن قلعة المسيلحة كذلك. يُمكن لمحبّي هذه الرياضة الاستمتاع بأماكن التخييم أو النوم في "بيت الشباب" الذي أسّسه نادي دوما، أو مكوث ليلتهم لليلة في إحدى بيوت الضيافة أو الفنادق في البلدة.