الدكتور محمد النغيمش
تخيّل أن تهبط بك الطائرة وبمئات الركاب لتُصعقوا من أن ربع أقنعة الأوكسيجين التي تتدلّى أمامكم لا تعمل على نحو جيد. أيّ كارثة يمكن أن تقع؟ هذا ما حذّر منه أحد العاملين في شركة "بوينغ" الأميركية الذي انتحر بعدما أدلى بشهادته في دعوى قضائية ضد عملاق صناعة الطائرات العالمية، حيث اشتهر بتوجيه انتقادات لاذعة الى معايير الإنتاج فيها.
التزام المرء الصارم بقيمه قد يدفع ثمنه غاليا، لاسيما إذا كان الأمر مرتبطا بسلامة البشر. وهذا ما حدث مع "جون بارنيت" المتقاعد من شركة "بوينغ" عام 2017 حيث تولى إدارة الجودة في مصنع انتاج طائرات 787 دريملاينر التي تُستخدم للرحلات الطويلة.
ما أثار قلق وغضب هذا المدير أن "العمال يتم الضغط عليهم لتجاوز المعايير اللازمة، وتركيب أجزاء دون الجودة المطلوبة في الطائرات"، بحسب تقرير لـ"العربية" نشرته "الجريدة" الكويتية. وهو ما كشف مشاكل في ربع أقنعة الاوكسيجين في طائراتهم. كما أنه وفريقه كانوا تحت وطأة تسريع عملية التجميع لتلبية طلبات بناء طائرات جديدة، والذي قد يضر باشتراطات السلامة، وهو ما نفته "بوينغ".
هذه المعضلة في مدى جودة ما ننتج أزلية. بدأت من الصانع الماهر منذ فجر التاريخ ونزاعه مع مَن حوله حول جودة السيف أو السكين أو النبال أو الأخشاب المصنعة وغيرها من مساكن ومزارع. وبعدما نجح الإنسان في إدخال الأرقام في مجالات التصنيع، مع حمّى حقبة الإدارة العلمية، وبُعيد الثورة الصناعية برزت الحاجة إلى معايير أكثر تفصيلا لضمان إنتاجية وجودة ما تقذف به المصانع من منتجات. ففي القرن الثامن عشر والتاسع عشر مع بداية الثورة الصناعية، طُورت أنظمة الإنتاج والتفتيش والرقابة. وفي القرن العشرين، وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية، تطورت معايير الجودة الشاملة، والتحكم الإحصائي في العمليات، وقدمت مفاهيم مثل الصيانة الوقائية وإدارة الجودة الشاملة.
بعدها صرنا نسمع في القرن الحادي والعشرين عن معايير آيزو ISO، بشتى نسخها، وتطورت حتى صارت تركز ليس على الجودة التي ترضي العميل والمُصَنِّع بل تأخذ في الاعتبار معايير الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية. كل ذلك كان في سبيل وضع حد لنزاعات البشر حول مَن يملك أجود المنتجات، وآمنها على حياتنا واستدامة كوكبنا.
وصرنا نرى علامة الجودة تقريبا على معظم المنتجات لتشعرنا بالاطمئنان وفخر الصناعة الوطنية. والجودة صارت تُعطى أيضا لإجراءات العمل الإدارية في أماكن غير متوقعة. أذكر أنني دخلت مطعما شهيرا للمأكولات الشعبية في العاصمة السعودية الرياض، وإذ به يعلّق لوحة تؤكد أنه قد حصل على معايير الجودة (آيزو) في عملياته.
الجودة لم تعد حكراً على الصناعات الثقيلة، فكل منا له الحق في السعي نحو تحقيق معايير الجودة سواء بخاتم آيزو أو بشهادة من حوله.