هبة الدندشلي*
قبل ما نحكي عن الواقع بلبنان، خلّيني بلّش من قصتي. أنا كبرت وربيت بمدينة صيدا، عاصمة الجنوب. ربّوني أهلي على حب الوطن الواحد، الشعب الواحد. علّموني معنى الصمود والعزيمة من خلال اصرارهن إنه يبقوا بلبنان رغم كل الظروف الصعبة، والحروب والاجتياحات والتهجير. كبرت على صوت فيروز والرحابنة ووديع الصافي، ومشاوير العيلة كانت لنكتشف جمال بلدنا من شماله لجنوبه.
بفترة الجامعة، نزلت على بيروت ودرست بالجامعة الأميركية، ومن وقتها، عشقتها. اشتغلت ببيروت وبنيت علاقات مع البشر والحجر فيها، صعب كتير يكسرها الزمن مهما طال. كان عندي شعور بالانتماء والأمان، عكس شعور الوحدة والغربة يلي عم حسه اليوم أنا وموجودة جوا بلادي. رغم كل شي كان ناقصني وقتها، ما بحياتي كان بدي فلّ.
ثلاث سنين بعد تخرجي من الجامعة، سافرت على الرياض لإبني عيلة، ومع كل روحة ورجعة، دموع بتنزل وما توقّف، على فراق بلدي وأهلي.
ست سنين من بعدها رجعت لإنه ما لقيت نفسي ووجودي إلا بلبنان، واقتنعت إنه ما بستاهل غير إني عيش حد أهلي وبين أصحابي، وحطّ كل طاقاتي ببلدي وأكبر أنا وعم ساعد أهله.
اول فترة حسيت حالي سائحة ببلدي. رجعت عالدراسة والشغل، وبلّشت مشواري لحقق جزء من يلي كنت بطمح لإله.
شوي شوي، واقع البلد الصعب وغياب المؤسسات الفعلية بلّش يوضح قدام عيوني، فيّقني من الحلم الحلو يلي كنت راجعة كرماله، وما خلاني اتأقلم...
بس البلد ماشي! كيف ماشي؟
سألت حالي كيف نحن ساكتين ومكملين؟ ليش كإنه الشعب متأقلم، بدل ما يثور على الظلم يلي عايشه؟ ظلّيت فترة سنة تقريباً بلا أجوبة. صارت حرايق أكتوبر ٢٠١٩ بالمشرف واستهتار الدولة الفاسدة، خلّى الحرايق تمتدّ وتلتهم الأخضر واليابس، وطالت مدرسة إبني بهالوقت. آلاف الأمتار من الثروة الحرجية غابت عن خريطة لبنان وعرّضت مئات العيل للخطر والنزوح. مدرسة ابني وأصحابه سكّرت بوابها والدولة العديمة المسؤولية، غايبة.
كان في غضب جوّاتي، ما قدرت إلا إنه عبّر عنّه عن طريق صفحتي على الانستاغرام. ناديت كلّ مين بالدولة بعد عنده شوية ضمير إنه يتحرّك وينقذ يلي بقي من الأبنية والأحراج.
يلّي اكتشفته هيدا النهار هو إنه غضبي ما كان بس سببه الحرايق، بل تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، الطائفية، البطالة، الزبالة، غياب الكهربا والمي النظيفة، الطرقات المهملة، الفساد والوسايط والمحسوبيات؛ يعني بكلمتين:
النظام الفاسد
كان لازم تنفجر بشي مطرح، والناس تفيق من الغيبوبة، وتوعى على واقعها السيئ، وتواجه اشباح الزعامات وأمراء الحروب، وتحاكم الفاسدين.
واندلعت ثورتنا
بليلة كان عندي فيها شعورغريب، إنه التغيير رح يبلّش من شي مطرح؛ كيف وأيمتى؟ ما بعرف. بس بعرف إنه صار الوقت إنه الشعب يرفض إنه يتأقلم
انتفضنا على الظلم
بكل زاوية بلبنان
ثرنا على الواقع والنظام والمنظومة
صغار، كبار، من كل الأديان والطوائف
قضينا أيام وليالي بالشوارع والساحات
نتحاور ونهتف ونواجه العصي
ثورة بتنادي بدولة المؤسسات والعدالة والسيادة، بوقف الفساد ومحاسبة الفاسدين، والتمثيل الصحيح.
بس شو كنا متوقعين؟
إنه نظام مشرّش من أكتر من ٣٠ سنة، يسقط بشهرين؟
إنه فجأة، الملايين من الثوار، تتفق توكّل "قادة" للثورة تحكي بإسمهن؟
إنه أهلنا وجدودنا، يتخطّوا خوفن على ومن الطايفة والزعيم؟
إنه نتوحّد بشهرين، بعد عشرات السنين من التفرقة الممنهجة؟
إنه مشاعرنا الجياشة، تقلب خطة وحدة وواضحة بيوم وليلة؟
علّينا سقف التوقعات أكتر مما كان لازم... وابتدى مشوار الانهيار الاقتصادي والاجتماعي يلي وصلناله اليوم، وترافق مع محاولات للإحباط والقمع والتخويف والترهيب والقتل.
هيدي مش انقلاب بيخلص بشهر،
ولا ثورة جياع،
هيدي ثورة مبادئية فكرية، قايدتها الطبقة الوسطى. بعد فترة، تحوّلت لقوة معارضة ممتدة من أقصى اليمين لأقصى اليسار. هيدي ثورة خلق منها مجموعات تغييرية وازنة متل تقدّم وخط أحمر ومدى وغيرن ومنها "منتشرين"، حزب شبابي تقدمي من أهدافه، وبشكل أساسي، تغيير نظرة الشباب للسياسة والأحزاب وتحفيزهن للمشاركة بالتغيير.
تفجير ٤ آب خلّانا نعرف لوين ممكن يوصل إجرام سلطتنا. فساد وطمع، وإهمال وحدود فلتانة ومؤامرات صرلها سنين، فجّرت بلد بأكمله، وقتلت رجال، نسوان وأطفال ما إلهن ذنب غير إنه كانوا موجودين بمحيط المرفأ. ووقت يكون ما عنا قضاء عادل ومستقلّ، بتصير العدالة صعبة المنال.
من ١٤ شهر لليوم، بعدها العدالة مفقودة، وبعده النظام عم يفتك بشعبه، إجرام اقتصادي واجتماعي، شعب محروم من أساسيات الحياة، منهوب من مصرياته، ممنوع من الاستمرار بشغله، مهجّر بمية الآلاف.
وعدونا بجهنم، ووفوا بوعدن...
وبعدين؟ منتأقلم؟
لأ، مش رح نتأقلم!
مش رح يروح هدر،
دم المفكرين والمناضلين اللبنانيين يلي قتلهن النظام واحد ورا التاني،
عرق كبارنا وشبابنا، وجنى عمرن،
دموع أمهاتنا على فراق ولادن،
وجع كل لبناني على بيروت وضحاياها،
الذل وحرقة القلب يلي عم نعيشهن كلّ يوم.
يمكن عايشين، بعدنا عم نتنفّس وقلوبنا عم تدقّ، بس لأ، الحياة هيك مرفوضة!
نحن منستاهل نعيش بكرامة، بوطن حقيقي ودولة بتحترمنا.
طب شو الحل؟
شو الحل بعد سنتين من الثورة والقمع والوجع والخوف والوداع؟
شو الحلْ لما الأمل يكون بصيصه كتير صغير؟
اسمحولي قول، إنه الحل، لطالما كان وبعده، ببلش من جواتنا، قبل ما نفتّش على حلول من حولنا؛
بإيمان إنه مهما الفترة طالت، التغيير جايي لا محالة،
بإيمان إنه ما نقبل ولا نتأقلم، شو ما عملوا فينا.
لما ما نتاقلم، يعني عم نصمد.
لما نظل نحاول، يعني عم نصمد.
لما نكمل نحلم بوطن واحد، يعني عم نصمد.
بس الصمود ما بيكفي بدون المواجهة بعدة أشكالها.
لنواجه يعني لازم نكملّ عملنا على تقريب وجهات النظر بين صفوف المعارضة ونخوض أكبر وأوسع عملية انتخابية على صعيد الوطن كرمال نبلّش التغيير من السلطة التشريعية.
لنواجه يعني لازم نضغط على الحكومة الحالية لتاخد قرارات وإجراءات فورية لبناء شبكة أمان اجتماعي بتحمي الطبقات المتوسطة والفقيرة وبتأمّن استمرار القطاعين الصحي والتعليمي، ووضع حد للدعم العشوائي، واستكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، والتدقيق الجنائي عالوزارات والإدارات ومصرف لبنان، وتثبيت سعر الصرف وتأمين استمرارية سير التحقيق بكلّ استقلالية بتفجيرالمرفأ.
لنواجه يعني لازم نضغط لتظلّ الانتخابات بموعدها، ونأمن شفافيتها عن طريق إنشاء هيئة مستقلة لإدارتها وتأمين أوسع مشاركة للمغتربين وتسهيل عملية الاقتراع.
لنواجه يعني ما نخاف من الكلمة الحرة ويظلّ صوتنا عالي على الفساد بكلّ أشكاله والفاسدين بالصحف والإعلام والإعلام البديل وحتى بالأماكن العامة.
لنواجه يعني ما نخلّي للطائفية مطرح ولا للزعيم انتماء ويبقى انتماؤنا، بس، للوطن.
لنواجه يعني بدنا نركّز على كل نقابة واتحاد، لنكرّر تجربة نقابة المهندسين بانتخابات نقابة المحامين وأطباء الأسنان وغيرها.
لنواجه بدنا نظلّ ندعم ونقوّي الشباب والطلاب، يلي لطالما استُبعدوا عن مركز القرار، ونغيّر نظرتن للسياسة ونحفّز دورن بالمشاركة.
لنواجه بدنا نكمّل الضغط لنوصل لدولة القانون والمؤسسات يلي المسؤول بيكون فيها هو الموظف عند المواطن، دولة اللامركزية الإدارية يلّى بتساهم بتطوير المناطق؛ أسسها الشفافية، المسؤولية والمحاسبة.
لنواجه بدنا دولة تشرّع وتطبّق قوانين عمل عادلة وتعطي ضمان للصحة النفسية، وتضمن مشاركة النساء المؤهلات بالتمثيل فيها.
لنواجه لازم نبني على القطاع السياحي يلي كان دايماً أساسي بالدخل العام وندعم القطاع الخاص ونحفّز المزارعين والصناعيين الصغار.
مش رح نتأقلم، لإنه بعده ناقصنا دولة، تيصير لبنان، وطن.
*مستشارة تواصل، ناشطة ومدوّنة على مواقع التواصل تحت صفحة whatworksforhiba
عضو المجلس التنفيذي لحزب منتشرين، حزب شبابي اجتماعي ليبيرالي ولد من ثورة ١٧ تشرين.
مديرة التواصل والعلاقات العامة في جمعية Embrace التي تعنى بالتوعية عن وتقديم خدمات الصحة النفسية.
كتبت بالعامية، لأن هدفي الأساسي أن أوصل للقارئين وكأني عم بحكي معهن وجهاً لوجه وتوصل رسالتي للقلب قبل العقل.