النهار

مستمرّة... "إلى أبد الآبدين"
مبنى جريدة "النهار".
A+   A-
جورج بكاسيني


مع صدور عدد الثالث عشر من كانون الأول 2005 بعنوان "جبران تويني لم يمت و"النهار" مستمرة"، قام "الديك" من بين موتين: موت جبران، وموت صاحبة الجلالة. أراد الراحل الكبير غسان تويني أن يكون استشهاد جبران، ومعه "مهنة المتاعب"، فعل قيامة؛ حتى إذا حملتنايلة، وريثة "الجبرانين" وما بينهما، صليبَ هذه القيامة، حوّلتها إلى مقاومة.

لم يكن عنوان "النهار" المُشار إليه مجرّد ردّ عاطفيّ أو انفعاليّ على اغتيال جبران، الذي كان عبارة عن رسالة متفجّرة "لمن يهمّه الأمر"، إنّماإجابة مدوّية أقرنت القول بالفعل مع "استمرار" "النهار" ونبض جبران معاً.

ربّما حصد الموت باقة من الشهداء، لكنّه لم يقوَ على نبضهم الذي بقي حيّاً يُرزق، تماماً كما لم تقوَ الصحافة الإلكترونية ومعها الأزماتالاقتصادية على الصحافة المكتوبة ورائحة الورق المدوّية حتى اليوم.

رُبّ قائلٍ إنّ الفضاء الرقمي ربح الحرب فيما لا تزال الصحافة المكتوبة تخوض المعركة تلوَ الأخرى من دون جدوى؛ وهذا صحيح نظرياً. أمّاواقع الحال أن الصحف لا تزال حتى يومنا هذا تحتلّ مكانتها التي تليق بها، في لبنان والعالم. والدليل على ذلك أن كبريات الصحف العالمية"مستمرّة"، بالرغم من العقبات الاقتصادية و"الإلكترونية" وتراجع سوق الإعلانات.

أقول هذا، ويُحاصرني حنين إلى رائحة الحبر منذ أن انتقلتُ قسراً ومجموعة من الزملاء إلى الصحافة الإلكترونية قبل ثلاث سنوات، بعدعشرين عاماً أمضيتها في جريدة "المستقبل"، حيث اختلطت أزمات السياسة بأزمات المهنة ومشقّاتها وأكلافها.

لم يعد ممكناً تحمّل الفارق الكبير بين التكلفة والمردود، وكأنّ قدر المهنة أن تقع فريسة "متاعبها" التي تضاعفت مع تراجع السيولة وسوقالإعلانات وتقدّم الصحافة الرقميّة الصفوف الأمامية في آنٍ، كما لم يعد ممكناً انتظار القارئ موعد الصدور، وقد سبقنا إليه هاتفه الخليوي الموثّق بالصّوت والصورة.

لم يعد ينقص أزماتنا المتناسلة سوى أزمة المهنة، وقد حوصرت من كلّ الجهات حتى النخاع. لم تعد تستقطب سوى أقليّة من نخب جيلنا،فيما أصبح الجمهور، أو الرأي العام الواسع، أسير الأخبار الإلكترونية التي يفتقد معظمها إلى الدقّة أو "تقاطع المصادر" التي كانت تتولّاها"مطابخ" الصحف الورقيّة. صارت الـ "fake news" الظاهرة الأكثر انتشاراً في عصرنا الافتراضيّ، وصار الخبر المعزّز بالوثائق والأدلّةوالخلفيّات مخالفاً للموضة. كان إذا خُطف طفل في أحد أحياء العاصمة احتلّ الخبر حيّزاً من الصفحة الأولى، ثمّ تولّى أكثر من زميل متابعةتداعياته، وأُجريت مقابلات مع مسؤولين أمنيين وقضاة ، وربّما علماء نفس، لمعرفة دوافع الخاطف حتى بلوغ الحدث خواتيمه القضائية. أمااليوم فإنّ أيّ حدث ثانويّ كفيل بطمس أي حدث جلل ولو كان بمنزلة انهيار جمهورية .

تبدّلت المعايير، وتبدّلت معها طقوس المهنة، وقد حوّلوها مجرّد أرشيف لما مضى. لكن بقي سرّها، سرّ المهنة، تماماً كما بقيت "النهار" جريدتناالأحلى في بيروت وفي بلاد العرب، نُقلّب صفحاتها ونتنشّق حبر سطورها كما لو أنه عطر.

لم يمت جبران الأول، ولا الثاني، ولا سليل الغساسنة. أما الطبعة التوينية الرابعة التي قاومت وما زالت تقاوم باللحم الحيَّ، فستبقى بإذن الله"مستمرّة"... "إلى أبد الآبدين".


اقرأ في النهار Premium