هل حقاً ما حدث ليلة 4 آب كان حقيقة؟ يستحيل أننا وقفنا في هذه المواجهة المرعبة مع الموت، ثم استطعنا أن نكمل حياتنا وكأنّ شيئاً لم يكن! مرّت الساعات، الأيام، الأشهر... مرّ وقت ثقيل جداً، وما زلنا عالقين في الوقت نفسه.
حسناً، والآن ماذا نفعل؟ نحن العالقين هنا في هذه البقعة البائسة من الأرض؟ نحن الذين لا نملك إرادة الرحيل، وما زلنا متمسكين بوطن يعيش نزْفاً حاداًّ، وقد تحوّلت ندوبه إلى التهابات عصيّة على العلاج؟ ماذا نفعل نحن الذين كرهنا الأحزاب والزعماء والتابعين الذين يسيرون وراءهم؟ ماذا نفعل ونحن نتمزّق في الداخل، غضباً على من يستهتر بصحّتنا ويذلّنا على أبواب المصارف ويسرق منّا حتى النفس؟ ماذا نفعل ونحن نعيش نار اللحظة الراهنة وذعر المستقبل؟ هل نرحل؟ نترك كلّ ما عشنا من أجله ونعلن الخسارة؟ نهرب؟ إلى أين؟ ومع مَن؟ وماذا نفعل بمن بقي من أحبّاء هنا؟
يختنق الأمل أكثر وأكثر كلّ صباح. نكتشف أنّ الأمل مجرد أكذوبة، نتمسك بها لنعيش الوهم بأننا ما زلنا أحياءً. كلّا لسنا أحياءً! نحن جثث تتنفّس.
ومع ذلك لا نزال هنا. ما الذي يبقينا هنا؟ لمَ لم نرحل بعد؟ ماذا ننتظر؟ على ماذا نعوّل؟
والآن ماذا نفعل؟ هل نتضرّع إلى الله؟ هل نلومه ونناجيه ونسأله ونلتمس منه القوّة؟ هل يحقّ لنا الحديث إلى الله، فيما آخرون يحتاجون إليه أكثر منّا، وبأشياء أهمّ: زوجة تحتاج إلى مساعدة في تخطّي غياب الزوج، وأمّ ليصبّرها على اختفاء جثة ابنها، وجريح ليقوّيه في تقبّل خسارة عين أو رجل، وطفل لكي يستعيد طفولته ويحلم؟ أما زال يحق لنا أن نحلم؟ ماذا نفعل الآن؟ هل ننتظر الموت المجّاني والقريب والقذر؟ هل نبقى على الهامش؟ هل نتحرّك ونستمرّ ونُبقي حياتنا كما هي؟ نعمل ونأكل ونخرج ونستحمّ لنزيل عنا أوساخ سخافتنا وضعفنا الذي يمنعنا من تغيير أيّ شيء؟ هل "نهجّ" إذاً؟ كيف نرحل؟
تحدّق في وجوه الناس... بعضهم خائف... بعضهم غير مبالٍ... وبعضهم تمرّ عليه هذه الأيام العصيبة صدفة... وكأنني أشاهد فيلم رعب، أبطاله بائسون يائسون، معلّقون بين حياة لم تعد ممتعة، وموت لا يعلمون إذا كان مريحاً!
منذ ليلة 4 آب اللعينة، فقدت القدرة على الكتابة... لم أعد أتآلف معها، علماً أنني لا أجيد شيئاً في الحياة سوى الكلمات... فقدت الشغف... أضعت البوصلة لأشهر طويلة...
حتى هذه الأسطر، لا أعرف الجدوى منها. هي مجرد هلوسات صبيّ أرعن صدّق وهم القرية الرحبانية، وأحبّ لبنان قبل أيّ شيء آخر. حان وقت الرحيل؟ البحث عن ملاذ آمن؟ اختبار فرصة حياة، لا تجهض فيها كلّ الأحلام؟ لا أعلم! كلّ ما أعرفه أنّ من بقي هنا، في هذه البقعة البائسة من الأرض، ومهما تكُن أسباب بقائه، يستحق الكثير والكثير والكثير من الحب... لعلّ بقاءه وكفاحه وتعاضده مع أولئك القابعين معه هنا، أسمى تجسيد لفعل الحبّ!