النهار

ننزفُ كلبنان ووعدٌ سنحاول وقفَ النزيف
A+   A-
"آخ، وكم من آخ سنصرخ بعد؟ تعبتُ ولا أستطيع التحمّل أكثر بعد. ما نعيشه اليوم يفوق التصوّر حتى لنكاد نظنّ أنّ، في جهنّم، الوضع أرحم. إلى هنا وصلنا! منذ وعيي الحياة وأهوالها، وأبي يكرّر التحذير نفسه: "انتبهي. ما تتأخري، الوضع مش منيح"، "الوضع على كف عفريت".
 
تعابير صرتُ أترحّم على سماعها، مع حزن عميق على ضياع الإحساس بالاستقرار. اليوم، وبعد كلّ ما نعيشه، تخطّينا مرحلة اللااستقرار: فأهلا بكم "تحت سابع أرض جهنم"!
 
لبنان لم يعد لبناننا. لم يعد يشبهنا. لم يعد ذلك اللبنان الذي، برغم كلّ التقلّبات والظروف، كان بمثابة حلم. آخ يا لبنان، ماذا فعلتَ بنفسك، وبنا وبأيامنا؟ الذنب ذنب مَن؟ لم أعد أجد أجوبة لأسئلتي. الضياع من كلّ الاتّجاهات. هل أحبّك يا وطني بكلّ أحوالك وأوجاعك، أم هل عليَّ تركك والعتب عليك بعد كلّ ما حصل؟ لا أعرف. اعذرني يا وطني، الذي منذ صغري تعلّمت كيف أحبّك على طريقتي. ولكن هل حقاً أحببتني؟ وأحببتَ أبناء جيلي وجيل الأحلام والمستقبل؟ اعذرني، فلم أعد تلك الصغيرة، لم أعد أهتم بالحبّ. قتلتني، وقتلت روحي. قتلتَ كلّ بقايا الحب في قلبي. قتلتَ كلّ أحلامي، فماذا تبقّى منك ومنّي؟ لا شيء. أصبحتُ فارغة وأنتَ كالأشباح. حتى الكلمات ضاعت مني، ألملمها غصباً عني. نشف دمي، وأصبحت جسداً بروح ضئيلة، خافتة. أحاول الطيران في عالم الأفكار والإبداع والحلم، لكنّ جانحَيّ تكسّرا. ماذا تريد مني بعد يا لبنان؟ سرقت شبابي، سرقت خططي للغد. أصبحتُ عارية تماماً.
 
تمهّل! ثمة شيء أشعر به. لا أعرف ماهيته بالضبط. يتّخذ أشكالاً ومشاعرَ مضطربة. أكتب هذه الكلمات، وفي رأسي تزدحم الصور. خفقان قلبي يتسارع. ماذا يحدث؟ إنّه الانفجار! دمٌ يسيل، زجاجٌ يتكسّر أمام عينَيّ. أين أخي؟ أريد الاطمئنان. أصرخ من دون صوت: "أين أنتَ يا أخي؟". أحاول أن أنسى. أحاول أن أمحي هذا الزلزال من رأسي؟ لكن كيف؟ هل تعلم يا لبنان أنّني لم أعد أتذكر منك سوى البشاعة. كنت على وشك أن أخسر حياتي وحياة أخي. الغضب بحجم بركان. ليتني أتركك إلى الأبد. 
 
لن أستطيع أن أستمرّ. اعذرني". 
 
رين بو موسى 
 
 
هذه الأسطر كتبتها في دفتر مذكّراتي بعد أيام من جراحة أجريتها جرّاء التفجير لاستئصال شظايا زجاج من يدي. كان يومَ أحد. يومها وضعتُ دفتري في درجي، وأخذت مسبحتي وتوجّهت إلى المحبسة المجاورة لمنزلي؛ محبسة مار روكز التي تُعرف أيضاً بكنيسة السيدة في منطقة مار بطرس- كرم التين.
كم ارتاح عندما تخطو قدمي أرضَ هذه المحبسة. يومها صلّيتُ، أغمضتُ عيني وتأملت في أعماقي. السواد يلفّني. لا أريد الاستسلام لهذا السواد. فتحتُ عيني لأتأمّل النِعم التي تحوط بي. للحظة نسيت. نسيت كلّ ما يؤلمني. نسيت الوجع. سافرتُ إلى دنيا مليئة بحُبّ الله، عدتُ إلى رجائي. ما أعظم هذا الشعور! عدتُ إلى المنزل. جلستُ بجانب أمي: "أنا بدي فلّ، بدي سافر". نظرت إليَّ وقالت ببرودة: "إيه فلّي". ثم أكملت التطريز لتعود وتنظر إليّ، قائلة: "أساساً شو في بهالبلد، بتعرفي لو صرلك شي إنتِ وخيّك، كنت قتلتهم كلن". لحظات صمت خرقتها جملة، "بس أنا وبّيك دفعنا دم قلبنا تنكبركن وتضلّوا حدنا. بس فلي. بعيدة عنا صحيح، بس بعرف إنّك بأمان".
 
ماذا أفعل؟ لحظة! أهلنا أيضاً ذاقوا الأمرّين، وما زالوا صامدين. ما الذي تغيّر؟ على الأرجح، لا شيء. لبنان من سيئ إلى الجحيم. ولكن هل نتركه وحيداً؟ مَن هو هذا اللبنان الذي نتحدّث عنه أساساً؟ لبنان هو نحن، ينزف كما ننزف، ضائع كحالتنا، وسواده من سوادنا. تعالوا نتغيّر جميعاً، عسى أن تحمل الأيام المقبلة كلّ الخير لنا، أي للبناننا. اعتذر من نفسي ومن لبنان على قسوة الكلمات. وعدٌ مني سأحاول وقف النزيف. 




اقرأ في النهار Premium