14 شباط 2005... مرّ 16 عاماً ولا يزال يطن في رأسي ذاك الصوت المرعب الذي ترافق مع كتلة نارية في السماء وأنا في طريق عين المريسة متوجهة إلى عملي في"النهار". كاد الموت يدركني، فلولا الزحمة لكنت في عداد من سقطوا مع الرئيس رفيق الحريري في ذلك اليوم.
يتكرر عدّاد الرعب... وطنين انفجار ذلك اليوم لا يفارق رأسي.
4 آب 2020 السادسة و7 دقائق مساء عاد الطنين مضاعفاً إلى رأسي، لا بل انفجر، بالصوت والصورة. سقط الموت علينا رذاذاً زجاجياً من واجهات "النهار"، وسقفاً هوى على رؤوس الزملاء. صراخ وعويل واستنجاد بالأنبياء والقديسين ومسارعةُ من لم تسل دماؤه إلى نجدة زملاء ومعاونتهم للخروج من المبنى. في الطريق رجال ونساء في حال هلع، الركام يملأ الأرصفة، وكأننا في أحد أفلام "هيتشكوك"... يا إلهي، أكابوس هذا، أم هذه بيروت؟
غاب الارسال الهاتفي لبعض الوقت، انقطاع تام، لا صليب أحمر يمكن الاتصال به، ولا قريب أو صديق ينقلني إلى أقرب مستشفى، ونزيف يدي اليمنى وكتفي يتفاقم، وشلل حركة الساعد والأصابع يقلقني، لكن النخوة والهمّة من شيم شباب لبنان، لا تخبو. توقف ذاك الشاب على دراجته النارية ليقلّني إلى مستشفى الجامعة الاميركية، معاندة الموت الجماعي، بيد نصف مشلولة.
المشهد في الطوارئ مريع. مئات الجرحى على أسرّة الطوارئ، والبقية على الأرض يسبحون بدمائهم، مع جثث مجهولة، وأنين سوريالي يختلط فيه الدعاء مع الصراخ وفقدان الأعصاب، وطاقم طبي يعمل أضعاف أضعاف طاقته... ولا تململ.
أعاين حولي، أي موت هذا، أي قدر نهيم فيه، أي يأس يجتاح هذه الجموع، أي ذنب اقترف هؤلاء ليتلقوا عقاباً جماعياً بهذا السواد، وأي جريمة ارتكبت بيروت لتكافأ بهذا العقاب؟
خرجت بعد أيام إلى البيت. الطنين في رأسي لا يفارقني، لكن قراري هزم الموت البطيء كان أقوى. يمناي لا تعمل لكن يسراي تحمّلت عنها. أشعلتْ مسؤوليتي تجاه الجريدة التي أحب، محركات الأمل والتفاؤل في نفسي واسترجعتُ نشاطي بعد 10 أيام، معلنة الحرب على اليأس والتقوقع والخوف.
بعد شهر على الانفجار، عدت لأول مرة إلى مبنى "النهار"... عفواً إلى ما تبقى من مكاتب. عدت إلى ذهول ذلك اليوم ولحظة نسف الحياة في شوارع بيروت. عاد الطنين إلى رأسي لا يريد مفارقتي. وقفت أمام مكتبي أتأمل بقاياه، فوقع نظري على كتاب بعنوان "السجينة". ابتسمت. أيقظني مغزى الرسالة. 16 عاماً وأنا سجينة الطنين والخوف من أي صوت مرتفع، سجينة الانفجارات بعد 14 شباط 2005، سجينة لحظات اغتيال جبران تويني وسمير قصير، ولا أزال سجينة انفجار المرفأ الذي حفر إجرامه على ساعدي. أيقظتني قراءة "السجينة" من خوفي التاريخي وأعادتني إلى سكة التفاؤل أن لبنان واللبنانيين محكومون بالأمل وقادرون على صناعته وبناء مداميكه، لِما يختزن هذا الشعب من قوة في دواخله تجعله عصياً على اليأس وجباراً في مواجهة الموت كيفما أتى.
قررت، تقوّيت، عادت نغمة الحياة ترتفع، اختفى الطنين من رأسي.