تعددت وسائل الذلّ والموت على اللبنانيين في أكثر السنوات شدة ووجعاً وحاجة، والنتيجة واحدة: هوّة عميقة وجدار إسمنتي شاهق، وأبراج تعيش فيها سلطة فاقدة الأهلية والحسّ بالمسؤولية، تتنكّر للواقع وتتنصّل من دورها وواجباتها، فيما الحصاد الموجع يراكم الضحايا والشهداء.
من ذلّ على أبواب المصارف والسوبرماركت أو الصيدليات، طمعاً بما ييسّر الحال ويضمن شيئاً من حياة رغيدة، أبى اللبنانيون أن يتنازلوا عن معاييرها، إلى موت تحت أنقاض النيترات أو على أسرّة مستشفيات بسبب وباء لعين أبى إلا أن يخرق أجساداً ويزهق أرواحاً أرهقها غياب التجهيزات والعناية الكافية.
جيش أبيض يكافح بالقليل، فيما جيش إلكتروني لا يفوّت تفصيلاً لينبش أحقاد ماض ويشعل فتائل فتنة يجهد كثر من اللبنانيين على طيّ صفحته، فيؤجج خلافات وصراعات تعيق قيام سلطة تنفيذية فاعلة وقادرة على مواجهة الموت البطيء وعلى استعادة الثقة المفقودة.
في الارقام والوقائع، كل المؤشرات الحيوية للبلد واقتصاده تُحتضر. وكل الآفاق المستقبلية قاتمة، من النمو المنكمش إلى العجوزات في ميزان المدفوعات والميزان التجاري، إلى نسب الفقر والبطالة والهجرة، إلى المديونية والتصنيفات السلبية، إلى الانهيارات المتتالية في القطاعات المصرفية والتجارية والسياحية والصحية والتعليمية. كلها مؤشرات تدل على الخطورة القصوى التي بلغتها حال البلاد. وقد تكون المرة الأولى التي يبلغ فيها لبنان وشعبه هذا الدرك من الانهيار والانحطاط في ما يشبه الموت السريري لا يحول دونه إلا نفَس ينبض في قلب يأبى الاستسلام، بإرادة تخرج عن المألوف، يعبّرعنها عنفوان لبناني يحمل توقيع مبادرة فردية وتضامن إنساني وأخلاقي واجتماعي يمثل في الواقع ما تصح تسميته بالأعجوبة اللبنانية.
الاعجوبة التي حالت ولا تزال دون انقطاع أوصال لبنان عن امتداده في العالم، فكان الخط الإنساني والمالي المفتوح من اللبنانيين المنتشرين كفيلاً بتوفير الاوكسيجين وإبقاء النبض حياً رغم النزيف، وقد قاربت قيمته سبعة مليارات من العملة الاجنبية الطازجة (وفق تقرير البنك الدولي في 2020)، وهي استهدفت الأسر من ذوي الدخل الأدنى والمتوسط والاقتصاد، فأبقته على قيد الحياة ومددت قدرته على الصمود، فاشترت له بعضًا من الوقت، في انتظار تسوية تحمل حلاًّ.
هي الأعجوبة التي أثبتت إلى جانب نماذج كبيرة من التضامن والابتكار وروح المبادرة الفردية الخاصة أن قيمة لبنان وجوهر بقائه وتفوقه لا تكمن في قيادات عبّدت طريقه إلى جهنم، بل في نبض يحمل في رصيده آلاف السنين من حضارة لا تموت!