تبدّلت نظرتي كثيراً إلى لبنان بعد انفجار المرفأ، وهو الانفجار الجريمة، في 4 آب 2020.
ليس عدد الضحايا هو السبب، وإن كان العدد يشكّل فاجعة، ولا الخسائر المادية التي لا ولن تُعوّض في ظلّ دولة مفلسة، وسارقة أيضاً، من رأسها إلى أسفل الهرم، ولا الأمراض النفسية التي صارت مزمنة وملازمة للبناني لكثرة المصائب؛ لكن الفاجعة الحقيقية تكمن في أسباب الانفجار، وفي التحقيقات التي تلته، وهي التي لن تبلغ أي حقيقة مرتجاة كما هو متوقّع انطلاقاً من تجارب معاشة في ملفّات سابقة، بحيث تغلب السياسة القضاء وتطيحه، هذا إذا افترضنا أنّ السلطة القضائية، وقد نخرها السوس، جادّة في عملها.
الفاجعة في اكتشاف تجذّر الفساد الذي يمكن أن يفجّر مدينة. الفاجعة في أن تلمس بوضوح الفساد الإداري الذي لم يعد يقتصر على الرشاوى. الفاجعة في مدى بلوغ عدم المسؤولية التي تطال رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء وقادة الأجهزة الأمنية والضباط والإداريين في المرفأ. الخوف الحقيقي ينمو عندما تتأكّد أنّ أمنك كذبة كبيرة، وأنّ المولجين به يتسابقون على المكاسب، ليس إلا. الرعب يتفشّى في عقلك عندما تتذكر كيف أنّ الأمن كان يقتحم مكاتبنا بكلابه البوليسية للبحث عن متفجّرات يمكن أن تنقل المشاركين في عرض الاستقلال إلى العالم الآخر، فيما المتفجّرات لا تبعد عن المكان إلا المسافة نفسها، ولكن على الضفة الأخرى، حيث تتجمّع كلّ القوى الأمنية. القلق ينتابك عندما لا يمثل الوزراء والنواب أمام المحقّق، ويمثل آخرون بشروطهم.
الأسى في أن يموت هذا العدد من المواطنين، ويُصاب عدد هائل من الناس، ولا يجرؤ مسؤول على زيارة المنطقة المنكوبة ومواساة الأهالي الذين تزاحموا للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كخشبة خلاص يمكن أن تُلزم فاقدي كلّ ضمير وطنيّ القيام بمسؤولياتهم، وهو برغم عدم تمكّنه من خرق الجدار الاسمنتي المشترك بين كلّ الاطراف السياسية، إلا أنّه "فش خلق" اللبنانيين بكلامه اللاذع عن سياسيي لبنان غير المسؤولين.
هذا الواقع الذي عشته مع الكثيرين من أبناء وطني، بدّل كثيراً من قناعاتنا، أو من قناعتي على الأقل، حتى لا يتّهمني أحد باختزاله، حيال البلد. وإذا كنّا "نحبّ الحياة" وقد شاركنا في مراحل تلك الحملة سابقاً، أذكر اصرارنا على إصدار "النهار" في عزّ الأزمات؛ في الانفجار الأخير الذي خرّب مكاتبنا في الجريدة، وفي يوم اغتيال جبران تويني عندما كانت الدموع مغرورقة في العيون، والقلوب منكسرة، لنؤكد تشبّثنا بالوطن الذي اسمه لبنان، وإعلاننا عدم ثقتنا بالذين توّلوا المسؤوليات فيه على مدى الأعوام، لأنّ الكلام المنمّق للمسؤولين لا يفيد في شيء بعدما بلغنا الحضيض. فإذا كنّا نحبّ لبنان فعلاً، ونحبّ الحياة، فعلينا حتماً تغيير تلك الطبقة الحاكمة، التي أوصلتنا الى ما نحن عليه. الفارق كبير بين لبنان، أرض القداسة والشهادة، بلد الطبيعة الحلوة والطقس الجميل، وبين حكّامه الذين دنّسوا أرضه وخرّبوا طبيعته واغتصبوا ناسه.