كلما اشتدت الأزمات، أعود إلى جبران تويني، والدي، في قسمه الشهير "نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحدين، إلى أبد الآبدين، دفاعاً عن لبنان العظيم"، لأجدني استمد منه ومن الجموع التي ردّدت القسم بصوت واحد، قوّة تسعفني وأبناء وطني، وتقوّيني للاستمرار في عملية إعادة بناء البلد.
لماذا هذا العدد، وفي هذا اليوم بالذات؟ في يوم عطلة "النهار"، يصدر هذا العدد، ليعلن أنه عدد استثنائي، مرتبط بعيد الحبّ، لأننا في أمس الحاجة إلى الحبّ، الذي يجمع ولا يفرق، يغفر ويسامح ولا ينتقم، يوّحد اللبنانيين بعيداً عن انقسامات لا طائل منها. وإذا كان الأحمر يرمز إلى الحبّ، فإنّه أيضاً رمز الشهادة. تلك الشهادة التي تذوّقنا طعمها المرّ في "النهار"، وتذوّقها اللبنانيون مراراً وتكراراً، وآخر فصولها ضحايا الدولة الفاشلة في انفجار المرفأ، هذه الشهادة تمثلت في أحد أقوى فصولها وأكثرها تأثيراً في المجرى السياسي، في 14 شباط 2005، مع جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي، في مماته، كما في حياته، بدّل في البلد تبديلاً، ورفعه إلى مقام الأمم والدول.
في هذا التاريخ، تختلط مشاعر الحبّ بالغضب، لا بالحقد والكراهية، بل بالمسامحة والغفران والصفح التي تحدّث عنها غسان تويني واقفاً أمام نعش وحيده جبران يرثيه في ساعة بالغة الحساسية والدقة. لكن الصفح يكتمل إذا عاد المجرم إلى رشده، وتاب، وتعهد أمام الله بسلوك طريق مختلف، وهو ما لم نلمسه واضحاً في لبنان، بدليل استمرار مسلسل الاغتيالات إلى الأسبوع الماضي، واستمرار سياسة الترهيب وكمّ الأفواه، واستعمال فائض القوة.
هل يكون كل ذلك مدعاة إلى اليأس؟ ربما تكون الهجرة الحلّ الأنسب لكثيرين، والاستسلام الطريق الأسهل لآخرين، لكن لا هذا ولا ذاك كان خيارنا. خيارنا ارتبط بدم الشهداء، وبالصمود، ومواجهة التحدّيات. ولنا خبرات في هذا المجال في "النهار"، فالجريدة لم تتوقّف عن الصدور، كما أريد لها مع اغتيال جبران تويني، وسمير قصير، ومحاولة اغتيال مروان حماده، كذلك صدر عدد الخامس من آب 2020، بعد انفجار المرفأ، من بين الركام، تحت ضغط كبير، وأمل كبير رمزه ديك "النهار" الصيّاح كلّ صباح، للحقيقة والحقّ، وللبنان.
جهود اللبنانيين بعد الانفجار وتضامنهم، واندفاع مواطنيهم في الانتشار للوقوف إلى جانب أهلهم المقيمين، وتضحيات الفريق الطبيّ والتمريضيّ في مواجهة جائحة كورونا، وتشارك المعلمين والأهالي في توفير التعليم لأبنائهم، على سبيل المثال لا الحصر، تشكل نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه لبنان، من دون صراعات وحسابات السياسيين الذين أوصلوا البلاد إلى ما آلت إليه. فالسياسة بمعناها الحقيقيّ هي التزام الشأن العام برقي وضمير وتواضع واستعداد للخدمة، بعكس ما يجري في لبنان الآيل حتماً إلى تغيير ولو تأخر.