النهار

يوم أسدلت "البيرق" بيرقها
البيرق.
A+   A-
لم يمرّ عام 2011 من دون أن يُسجّل لبنان نكبة صحافية. تقودنا الذاكرة إليه لنسترجع ضربة موجعة سدّدتها الأزمات اللبنانية للصحافة. بيروت التي لجأ إليها الكتّاب والصحافيون والمفكّرون هرباً من الاضطهاد الفكري، كتبت وطبعت ونشرت إلى أن زفّت قافلة من وسائل إعلامها شهيدة، الواحدة تلو الأخرى، في ما يُشبه مطلع موسم الحصاد.

ففي أيار 2011، أبلغت إدارة دار "ألف ليلة وليلة" المحرّرين والموظفين والمستخدمين قرارها وقف إصدار جريدة "البيرق"، ومجلة "مونداي مورنينغ" الأسبوعية، الصادرة باللغة الإنكليزية. جاء ذلك بعد نحو شهر على احتجاب مجلة "الحوادث" الصادرة عن الدار نفسها.

صباح الأول من آب، صدر "العدد الوداعي" من "البيرق" وحمل الرقم 20410. حملت افتتاحية العدد عنوان "شكر وعذر وذمة"، بقلم النقيب السابق للمحامين في بيروت عصام كرم، وهو شقيق رئيس التحرير الراحل قبل مدة نقيب المحررين ملحم كرم. أسدلت "البيرق" بيرقها بعد بعد زهاء قرن من تأسيسها على يد سعيد فاضل عقل، أحد شهداء الاستقلال.

لم تنتهِ الأزمة هنا. فيوم الجمعة 30 أيلول 2011، أبلغ وفد من مجلّتَي "لا ريفو دو ليبان" و"ستايل" مجلس نقابة محرري الصحافة قرار وقف الإصدار نهائياً، استكمالاً لإغلاق "دار ألف ليلة وليلة" التي كان يملكها ورثة نقيب المحرّرين الراحل ملحم كرم. وبذلك، خسر لبنان دار نشر رائدة وجريدتَين وثلاث مجلّات.

لا شكّ أنّ الأزمة المالية التي عصفت بصحافة لبنان قد فعلت فعلها وأدّت إلى إقفال "البيرق" وأخواتها. يومذاك، قيل إنّ عصر الصحافة اللبنانية الحرّة وسط الأنظمة المتشدّدة قد أفل، وقيل إنّ قرار الإغلاق اتُّخذ لافتقار الصحيفة إلى المال السياسي والدعم الحزبي و/أو الخارجي. كما قيل إنّ الصحافة الموروثة عجزت عن تحويل نفسها مؤسسات قابلة للحياة وسط المتغيّرات في السياسة والثقافة ونمط الحياة. والنتيجة، إقفال "ألف ليلة وليلة" ليس لسبب. فالعوامل المذكورة مجتمعة نخرت سارية "البيرق" على مهل وأضعفتها حتّى تهاوت. زد على ذلك عدم اتّفاق ورثته مالك المطبوعة ملحم كرم - الذي اشتراها منذ مطلع الستينيات وتوفي قبل سنة ونيف - على إدارة مطبوعات الدار.

في غمار أزمة الصحافة الورقية، كانت المنصّات الرقمية تزدهر شيئاً فشيء. تلك الفترة، قضت تحدّيات الزمن الصعب على مجموعة من الصحف ووسائل الإعلام، منها "السفير" و"الأنوار" وإصدارات "دار الصياد"، وجريدة "المستقبل"، وكذلك "الاتحاد اللبناني" وغيرها. وباتت الصحف والإذاعة والتلفزيون تُسمّى "وسائل الإعلام التقليدية"، أمام هجمة مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى المعلومة وسط الدفق الحرّ للأخبار وتنامي آلات الضخّ، وسط انكماش الإعلانات في زوايا الصحف الورقيّة.

من جهة ثانية، واجهت "البيرق" قُبيل احتضارها قاتلَين أساسيَّن: قدرة المواطن الشرائية والاقتصاد المحليّ. فعلى عكس الازدهار المرتبط بالتحوّل الرقمي غرباً، حاولت الصحيفة أن تستمدّ حياتها اقتصادياً، غير أنّ حياة المؤسسات الإعلامية في لبنان يرتبط أولاً بالاستقرار والاقتصاد النشيط، لكنّ الأزمات اللبنانية حدّت من احتمالات تمويل الصحف عبر الإعلانات حتى كاد أن يكون التمويل معدوماً، بالإضافة إلى فقدان الارتباط الكلّي مع قطاعات الإنتاج عبر الإعلام.

ما حدث مع "البيرق" وأخواتها عيّنة مما شهدته المؤسسات التي تنوء تحت وقع الأزمات في تلك الفترة وحتى يومنا، وسط الانهيار والخضّات السياسية والأمنيّة، وتُقفل أبوابها وتستغني عن موظّفين، لكنّ المعنى المؤلم يتضاعف في الإعلام الذي تعكس صحة وجوده سلامة الرأي العام والديموقراطية.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium