نستعيد في #أرشيف_النهار مقالا كتبه #جبران تويني بتاريخ 18 آذار 2004 حمل عنوان "أين لبنان في الشرق الجديد؟".
قبل سنة بدأت الحرب العسكرية ضد نظام صدام حسين. وسبقها كلام على شرق أوسط جديد. وقد رافقت الكلام السياسي آنذاك معارك عسكرية على أرض العراق حاولت فيها الولايات المتحدة الاميركية اعتماد سياسة الجزرة والعصا، بدعم الرسائل السياسية بعمليات عسكرية.
وبعد سقوط النظام العراقي واصل الاميركيون توجيه الرسائل السياسية الى أكثر من طرف شرق أوسطي وبالأخص الى سوريا وايران، وكانت كل هذه الرسائل تصب دائما في خانة مشروع الشرق الاوسط الجديد الهادف الى انهاء الانظمة التوتاليتارية وتفعيل الحياة الديموقراطية وتعزيز دور المجتمع المدني.
ولقد اعتبرت واشنطن ان الحرب على نظام صدام حسين كانت خطوة أولى أساسية لا مفرّ منها من أجل إنجاح عملية تغيير الشرق الاوسط، معتبرة ان النظام العراقي السابق الذي كان الاكثر تصلبا في شكله الاستبدادي كان يشكل عقبة رئيسية أمام المشروع الاميركي، لذلك رأت الادارة الاميركية ان إسقاطه سيفتح الطريق امام التغيير ويشكل سابقة في المنطقة لأنه سيكون أول نظام توتاليتاري يسقط بالقوة ويوفر فرصة لشتى التيارات والاحزاب لتتحرر وتقرر مصير بلادها ومستقبلها.
وهذا ما حصل. وقد جاء سقوط البعث في العراق بمثابة زلزال ورسالة واضحة موجهة الى كل الأنظمة في المنطقة من المحيط الى الخليج، فضلا عن انه جعل الولايات المتحدة شريكاً مباشراً على الأرض في هذه المنطقة من العالم.
ومن أجل التعجيل في حصاد مكاسب سقوط نظام صدام حسين كانت أميركا بحاجة الى كسب ثقة الشعوب العربية، فحاولت من خلال "خريطة الطريق" تحريك المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية بغية التوصل الى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية. ولو نجحت "خريطة الطريق" لتمكنت الولايات المتحدة من تغيير صورتها في العالم العربي، هذه الصورة التي تضعها عن حق في خانة الحليف الدائم لاسرائيل!
ولكن "خريطة الطريق" سرعان ما شلّت بفعل تحرك التيارات الأصولية المتطرفة المتضررة في اسرائيل وفي فلسطين كذلك. فالتقى كالعادة التطرف الفلسطيني مع التطرف الاسرائيلي حول مصلحة مشتركة عنوانها الأساسي: لا لأي حل سلمي عادل وشامل يلغي دور التطرف والأصولية.
& & &
حيال هذا المأزق الاساسي الذي ساهم مرة جديدة في فقدان ثقة الشعوب العربية بأميركا، ومع ازدياد العمليات العسكرية في العراق، اعتبرت واشنطن ان لبعض الدول العربية دوراً رئيسياً في شل "خريطة الطريق" وخصّت سوريا وايران والدولة اللبنانية وخصوصا في شأن "حزب الله" ومنظمات الرفض الفلسطيني، وعادت الى توجيه الرسائل، الواحدة تلو الاخرى، معتبرة "ان مشروع الشرق الاوسط الجديد لا يمكن أن ينفّذ إلا اذا غيّرت هذه الدول وهذه التنظيمات سياستها الاقليمية والداخلية". ولا لزوم هنا للتذكير بامرار "قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان"، ولا بالتهديدات التي وجهت الى ايران و"حزب الله".
ولا لزوم للتذكير كذلك بما حصل خلال هذه السنة اثر سقوط نظام صدام حسين، إن على مستوى التغيير الجذري في السياسة الليبية أو في الليونة الايرانية حيال البرامج النووية، أو محاولات الاصلاح والتصدي للتطرف الاصولي في السعودية، أو المواقف التي اتخذها الرئيس المصري حسني مبارك من الديموقراطية ورفضه الارث السياسي، او التطور الذي حصل داخل دول الخليج، إن على صعيد الممارسة الديموقراطية أو الاقتصاد او حتى الحريات العامة.
ورغم هذه التطورات الايجابية، بقيت اميركا تصطدم بالقضية الأم، أي القضية الفلسطينية، مما فاقم أزمة الثقة بينها وبين الشعوب والانظمة العربية وأعاق الاعلان الرسمي للانطلاق في تنفيذ المبادرة التي طرحتها للمنطقة والمعروفة باسم "مبادرة الشرق الاوسط الأكبر".
& & &
هل يعني ذلك ان عقارب الساعة ستعود الى الوراء، وأن الزلزال العراقي لن يؤثر على مستقبل الشرق الاوسط؟
طبعا لا. فهنالك رأي جامع يقول ان التغيير آت لا محالة، وعلى هذا الاساس عجّلت أوروبا في دخول الساحة الشرق الاوسطية محاولة ضبط الامور ولملمتها بهدف التوفير على المنطقة الكثير من الهزات والخضات الجديدة التي قد يدفع ثمنها العالم أجمع. ولقد رافق الموقف الاوروبي تحرك فاعل للأمم المتحدة في العراق من أجل الاسراع في قيام دولة ديموقراطية مستقلة.
وتوّج التحرك الاوروبي بورقة مشتركة المانية - فرنسية قد تتحول مبادرة تحمل في طياتها مشروع تصور لشرق أوسط جديد متطور ومختلف.
وتقول المصادر المطلعة على المشروع ان المبادرة الأوروبية التي قد تقرّ نهاية هذا الشهر لا تتعارض مع المبادرة الأميركية، لا بل انها تكمّلها وتتفاعل معها. وقد سرّبت معلومات مفادها ان الولايات المتحدة الاميركية ترحّب بالمبادرة الاوروبية وبأي عمل مشترك أميركي - أوروبي من أجل دفع عملية التغيير قدماً في الشرق الاوسط.
ولا شك في أن بين المبادرتين الكثير من النقاط المشتركة، مع العلم ان البعض يقول ان الورقة الاميركية يطغى عليها الطابع الأمني بينما الورقة الاوروبية يظللها الطابع الاقتصادي - الاجتماعي. أما النقاط الاساسية التي تلتقي حولها المبادرتان والتي تظهر بوضوح في الورقة الأوروبية فتتناول الآتي: ارساء الديموقراطية، احترام حقوق الانسان، تطوير القوانين والتشريعات وتطبيقها بحيث تصبح عصرية وتحمي حقوق المواطنين، اعتماد مبدأ الشفافية في الحكم، العمل على تطوير الانظمة التربوية وتفعيل التربية في المجتمعات، اعطاء دور أوسع وأفعل للمجتمع المدني، اضافة الى تطوير الانظمة الاقتصادية من أجل اقامة اقتصاد حر وتجارة حرة.
واللافت في مشروع المبادرة الاوروبية انه يعتمد احترام خصوصية كل بلد من بلدان الشرق الاوسط كي لا يظن انه يطرح أفكاراً مستوردة ومركّبة من الغرب لفرضها على الشرق. لذلك تعتمد المبادرة الاوروبية تفعيل الاتفاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية والمشتركة بين أوروبا والشرق الاوسط، معتبرة ان مشروع "أوروبا الموسعة" سيساهم حتما في تفعيل هذه الاتفاقات كما يعزز عملية التبادل الاقتصادي والتجاري والثقافي.
الى ذلك، يعتبر مشروع الورقة الاوروبية ان الحوار مع مجلس التعاون الخليجي أساسي تماما، كما الحوار مع جامعة الدول العربية. لا بل قد يكون للجامعة دور مميز من خلال تأليف لجان مشتركة لاحياء الحوار خدمة للتغيير والتطوير.
أما الأهم، فهو الدور الكبير الذي تعطيه الورقة للمؤسسات التابعة للأمم المتحدة، سواء لناحية درس الواقع او متابعة التطوير.
& & &
على أي حال، فان المراقبين يعتبرون ان التكامل والتفاعل بين المبادرتين الاميركية والاوروبية من شأنهما منح الامم المتحدة دوراً محورياً في مواكبة حركة التغيير والتطوير في الشرق الاوسط، مع التأكيد ان نقطة الانطلاق الاساسية هي استعادة عامل الثقة بين الشرق والغرب، بين العرب وأوروبا وأميركا انطلاقا من إيجاد حل سريع وعادل للقضية الفلسطينية.
بعد سنة على بداية الحرب ضد نظام صدام حسين يرى المراقبون ان تغيير الشرق الاوسط يكاد يكون حتمياً، ولكن سياسة العصا والجزرة الاميركية قد لا تتغير، أيا تكن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وخصوصا بعد التوافق على الحد الادنى بين أميركا وأوروبا حول ضرورة التغيير من المحيط الى الخليج. وقد تندرج الاحداث التي تحصل في سوريا في هذا السياق...
& & &
... ويبقى لبنان ودوره. وهنا لا لزوم للقول ان المبادرة الاوروبية، كما المبادرة الاميركية ومبادرات الأمم المتحدة والعالم كله، قد وضعت لمشاريعها عنواناً أساسياً، بل شرطاً لتحققها هو قيام حوار بين الحضارات، والأديان... وهنا بالذات يكمن دور لبنان الذي كان ولا يزال الاطار الصحيح لهذا الحوار، وقد مارسه بنجاح وعاش تجاربه، المرّة أحياناً، والتي كادت ان تسقط بفعل التدخلات الخارجية و"حروب الآخرين" على أرضه.
إن لبنان مدعو، في اطار الشرق الاوسط الجديد، الى الاضطلاع بدور المختبر الحقيقي للحوار والتغيير والتطوير، وان هذا الدور لا يمكن ان يؤدى كما يجب إلا اذا خرج البلد من مرحلة الانحطاط السياسي التي وصل اليها، الى مرحلة تليق بتاريخه وحضارته ومكانته في المنطقة والعالم.