نستعيد في أرشيف_النهار مقالاً كتبه جبران تويني بتاريخ 19 كانون الأول 2001، حمل عنوان "الصلابة... لا الاستفزاز".
يوم الجمعة الماضي، بينما كنت اشاهد الاحتفالات بذكرى يوم القدس، دخل الى مكتبي ديبلوماسي غربي صديق وقال لي بعد دقائق: ما بك؟ لمَ كل هذا الاهتمام بعرض عسكري يبدو انه يجري في طهران؟ قلت له: لا يا صديقي، هذه ليست طهران في ايران، انها الضاحية الجنوبية في بيروت لبنان. قاطعني قائلاً: لبنان؟ أليست هذه الصور، في طليعة الاستعراض، للخميني ولخامنئي؟ وهذا الشبل الطفل باللباس المرقط ألم يدل بالقسم بالايرانية؟ قلت له: معك حق، ولكن نحن في لبنان، صدّق او لا تصدق: هذا الاحتفال يجري الآن في بيروت، ولمناسبة يوم القدس الذي اعلنه الخميني. ردة فعل صديقي الديبلوماسي كانت ردة فعل اكثرية اللبنانيين الذين شاهدوا هذا العرض العسكري الضخم غير المسلح، والذي لا علاقة له بلبنان... على الأقل لبنان الذي عرفنا ونعرف وأردنا ونريد. هذه الصورة التي يريدون الصاقها بوطننا لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بلبنان، وما يقومون به لا يمثل ارادة المسلمين اللبنانيين ولا الطائفة الشيعية اللبنانية الكريمة! نسوق هذا الكلام انطلاقاً من تمسكنا بلبنان التعايش والعيش المشترك، بلبنان الاصيل والاصالة، بلبنان الحضارة العريقة ناشر المعرفة ورسول النور.
ما حصل في الضاحية الاسبوع الماضي شكّل في رأينا المتواضع تحدياً للدولة ولمؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش اللبناني، وتحدياً لمشاعر اكثرية ضخمة من اللبنانيين واستفزازاً لها. ما معنى هذا الاستعراض العسكري الكامل والشامل بما فيها العروض الخاصة بالكومندوس، مع ما رافقه من قطع لطرقات الضاحية الجنوبية والخطابات الطنانة والرنانة؟ وكيف يجرى استعراض كهذا مع ما رافقه من مواقف قد لا تمثل الموقف اللبناني الرسمي ولا الشعبي، خصوصاً على مستوى السياسة الخارجية اللبنانية، ومع ما رافقه من مظاهر استفزازية مذهبية. وكيف تقبل الدولة بأن يحصل ما حصل في هذا الظرف الدقيق الذي يشهده العالم والمنطقة خصوصاً لجهة اعادة توزيع الادوار والاوراق والتحالفات، بينما تمنع وتقمع اصغر تظاهرة طلابية امام جامعة من الجامعات او حتى في حرمها؟ اسمحوا لنا ان نسأل عن مغزى هذا الاستفزاز. نحن مع القضية الفلسطينية ويجب ان يكون موقفنا مع الشرعية الفلسطينية الممثلة بسلطة ياسر عرفات، وليس من مصلحة لبنان الدخول في دوامة التجاذبات الفلسطينية، ولا تحريض الداخل الفلسطيني بعضه على بعض. ولا نعتقد ان من واجباتنا تحرير فلسطين، وعلى الاسس التي سمعناها في خطاب يوم الجمعة الماضي. فكيفية تحرير فلسطين وبناء الدولة الفلسطينية هما من مسؤولية الشرعية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وليس من مسؤوليتنا. وان الشعب اللبناني بأسره قد دفع غالياً ثمن تورطه في القضية الفلسطينية وهو غير مستعد ان يدفع من جديد ثمناً عن الآخرين.
ما حصل يوم الجمعة الماضي لا يعبّر عن سياسة لبنان الخارجية لا تجاه الولايات المتحدة ولا تجاه قرارات الامم المتحدة ولا تجاه عملية السلام. فهل كلّفنا الفلسطينيون أن نتكلم باسمهم ونحرّض على استعمال القوة داخل الاراضي الفلسطينية ساعة يدعو الممثل الشرعي للدولة الفلسطينية الى التهدئة وحقن الدم ووقف العنف؟ وهل نحن مكلفون ان نكون طرفاً في الصراع الفلسطيني - الفلسطيني؟ نحن طرف مع الفلسطينيين وقضيتهم في وجه العدو الاسرائيلي ولكن لا يمكن ولا يجوز ان نتدخل في الشؤون الفلسطينية الداخلية وان ننحاز الى جانب الفئات الفلسطينية الاصولية! لا يجوز، ولا نريد ان ندفع ثمن هذا التحريض، لان لبنان كله سيدفع ثمن تحريض من هذا النوع. فهل المطلوب جر لبنان الى الخراب والى المواجهة خارج اطار القضية اللبنانية؟ لبنان مع حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية ولقضية الشرق الاوسط تماماً كما هو الموقف العربي والموقف السوري بالذات الذي يعبّر عنه من خلال سياسة وحدة المسارين.
والشعب اللبناني دافع عن "حزب الله" عندما حاولت اميركا ان تتهمه بالارهاب. ولكن ليسمح لنا "حزب الله" بأن نقول له انه غير مسموح ان يتصرف وكأنه الدولة وكأن القرار السياسي، بل العسكري ملك يديه، ومصير لبنان بين يديه! ولا يجوز ان تبقى الدولة مكتوفة وكأن هناك دولتين وسياستين في لبنان. هل هذا هو لبنان؟ لا وألف لا! وما نقوله يقوله ويفكّره اغلب اللبنانيين، ولو سراً. ان كل عمل او تحرك يصب في خانة تحريك المشاعر والنعرات المذهبية، او يعود بنا الى ايام الحرب السوداء، او يهدف الى تحويل مجتمعنا مجتمع حرب، كل شيء من هذا القبيل مرفوض. فما معنى استعراض الاشبال الاطفال باللباس العسكري؟ اي جيل جديد نريد ان نربّي ولأية اهداف؟ هل نريد ان نربي فيهم الحقد والكراهية والعنف والحرب، دائماً الحرب؟ اننا نخاف على مستقبل لبنان ومستقبل الهوية اللبنانية والعيش المشترك والتعايش عندما نرى ما رأيناه يوم الجمعة الماضي!
هذا ليس لبنان، لا لبنان الذي كان ولا لبنان الذي نريده في المستقبل. لتقل لنا الدولة كيف تريد ان تبني الثقة داخل المجتمع اللبناني وان تبني الثقة بين الداخل والخارج وان تشجع عودة المستثمرين والاستثمارات في ظل مهرجانات واستعراضات كهذه التي جرت الجمعة الماضي. اين هو دور لبنان في حوار الحضارات وفي تقريب وجهات النظر بين الغرب والشرق؟ اين لبنان همزة الوصل، لبنان الحضارة، لبنان الاشعاع في ظل ما رأينا يوم الجمعة الماضي؟ اين العدالة؟ اين السلم الأهلي؟ اين الحوار الداخلي؟ اين دولة المؤسسات؟ صلابة الموقف لا تعني الاستفزاز ولا تعني التطرف ولا الاصولية ولا التعصب.
لبنان صلب في موقفه الاقليمي وصلب في موقفه ضد العدو الاسرائيلي وما يقوم به من اجرام في الاراضي المحتلة، وما يقوم به ضد لبنان يومياً - وآخر ما قام به انتهاك الاجواء اللبنانية - ولبنان صلب في وحدته وتعددية مجتمعه وصلب في ايمانه وتمسكه بهويته وحضارته الفريدة من نوعها، ولبنان صلب وشرس في الدفاع عن وحدة ارضه وشعبه واستقلاله وسيادته. ولكن لبنان اللبنانيين غير مستعد لان يُساق من جديد الى حلبة صراع لا علاقة له به، وغير مستعد لان يقبل بأن تصبح هويته ووحدة شعبه واستقلال ارضه موضع تهديد. وحدتنا وخصوصيتنا وهويتنا مقدسات تساوي، بل تفوق قدسية اي قضية مقدسة، ولن يسمح اللبنانيون لأحد بأن يمسها او يهددها او ان يلعب بنار التفرقة مهما كانت الذرائع. ما حصل الاسبوع الماضي تجاوز الحدود، ومطلوب من الجميع العودة الى العقل وإلى واقع لبنان، ومطلوب من الدولة ان تكون دولة الجميع، حقوقاً وواجبات!