يُعاني مرضى السرطان في لبنان الآلام مرّات، أوّلها ألم الجسد المُصاب بالداء الخبيث، وليس آخرها ألم البحث عن العلاجات والأدوية. فالمرضى المصابون الباحثون عن سرير في مستشفى يجهدون في الوقت عينه للبحث عن علاجاتهم لتنفيذ بروتوكولات مرضهم، ويُواجهون الحرمان في ظلّ صمت الدولة أو عجزها، حيث لا دواء، ولا علاج كيميائياً، بعد تعذّر العلاج المناعي، ووسط نشاط السوق السوداء اللي "ماشية منيح"، لا سيّما عبر الدول الإقليمية حيث تكلفة علبة دواء واحدة قد تبلغ 2000 دولار أو 3000؛ فالدولة لا تكترث لدموع المرضى وأهاليهم، ولا لمعنويات المريض والمحيطين به، ولا تأخذ بالها من قدرة المواطن المالية، وقدرة ليرتها الشرائية، حتى لو انهار توازنه الماليّ.
لكن الحقيقة المرّة التي نواجهها أن ما شهده الطب من ثورة علاجيّة مشجّعة وناجحة، لا سيّما في ميدان العلاج المناعيّ، لن يكون في متناول مرضى كثيرين، وهذا بحدّ ذاته "جريمة". فأن تحرم مريضاً من علاج قد يشفيه هو جريمة، تماماً كمنعه من الوصول إلى الخدمات الصحيّة، لأنّ "كلّ شي صار بيكوي كوي"، والجلسة الواحدة قد تفوق راتب المريض لعدّة أشهر.
يضع المهندس محمد فاضل أمامنا تجربته مع سرطان الرئة، الذي اكتشفه في العام 2008 عن طريق الصدفة، فيقول "كنتُ أقدّم طلب وظيفة عامّة في الدولة، ومن بين شروط العمل إجراء صورة للصدر. لم أكن أتوقع أن هذه الصّورة ستغيّر حياتي رأساً على عقب، وأنني سأكون في مواجهة مع مرض السرطان. لقد كشفت الصورة وجود ورم في الرئة، وبعد فحوصات عديدة تمّ تأكيد إصابتي بسرطان الرئة".
خضع فاضل لثماني جلسات من العلاج الكيميائيّ ولـ33 جلسة من العلاج الشعاعيّ، اختبر فيها الكثير من العوارض والآثار الجانبيّة المزعجة.
يصف تلك اللحظات بقوله "مررت بلحظات صعبة حتى في إحدى الليالي قلت "مش رح يطلع عليّ الضوء" إلا أنه بالرغم من صعوبتها مرّت، وانتصرتُ على المرض. عانيت من التقيّؤ الحادّ، ومن فقدان وزن مخيف، إذ وصل وزني إلى 40 كلغ، بالإضافة إلى تساقط شعري وفقداني الشهيّة. ومع ذلك، بفضل المتابعة والعلاج اختفى المرض نهائيّاً من جسمي".
لكن العام 2018 كان بمثابة صفعة جديدة، حين ظهر شيء على الكبد، وكان الخيار العلاجيّ مختلفاً.
يشير فاضل إلى أنّ "الخيار الأول كان الجراحة، ثمّ الخضوع لعلاج شعاعي. خضعت لجراحة في الكلية حيث تمّ استئصال 18 قطعة من الرئة (تبيّن أن 12 منها مسرطنة، و6 أخرى خالية من المرض)، ومن ثَمّ انتقل المرض إلى الكبد، حيث استأصلت وعالجت علاجاً خاصّاً".
بالرغم من هذه التجربتين فإنّ فاضل يعيش اليوم بكلّ أمان وأمل بشرط المتابعة الدائمة. لذلك يتوجّه برسالة إلى كلّ المرضى والأشخاص بنصيحة "المهم المتابعة الطبية الدائمة الكفيلة بإنقاذ الشخص وزيادة نسبة فرص الشفاء، خصوصاً أنّنا نجهل متى يمكن لهذا المرض أن يعاود الظهور. ولولا التشخيص المبكر والمتابعة المستمرة لما نجوت من هذا الخبيث".
يشرح الأستاذ المحاضر في جامعة البلمند، والمتخصّص في أمراض الدم والأورام، والطبيب في مستشفيي الجعيتاوي وجبل لبنان الدكتور مارون صادق، في محاضرة نظّمتها جمعية "بربارة نصّار" حول سرطان الرئة وسبل الوقاية عبر تطبيق "زوم"، برعاية شركة "أسترازينكا"، أنّ سرطان الرئة هو الأكثر شيوعاً بين الناس، وأن نسبة الوفيات به تفوق باقي النسب في سرطانات أخرى. ويرتبط هذا السرطان بأسباب وعوامل مباشرة وغير مباشرة، لكن بعضها قابل للتعديل، وعلى رأسها التدخين".
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإنه في العام 2020 وحده تمّ تسجيل 10 ملايين حالة وفاة بسبب السرطان، معظمها بسبب سرطان الرئة فقط، بمعدل 1 من كلّ 6 وفيات في جميع أنحاء العالم.
وعن الأسباب المسؤولة عن الإصابة بسرطان الرئة، يعدّد صادق أهمّها:
* السبب الأول والمباشر والأكيد هو التدخين: قد يعرّض الدخان الشخص المدخّن للإصابة بسرطان الرئة 10 مرات أكثر من شخص غير مدخّن. لذلك علّموا أولادكم أن الـIkos والـVapimg مضرّان، ولهما تأثير سلبيّ على الرئتين. كذلك النرجيلة مضرّة جداً، بعد أن باتت منتشرة بشكل كبير في مجتمعنا، إذ إن جلسة نرجيلة لمدّة ساعة ونصف توازي بأضرارها وسلبيّاتها نحو 100 سيجارة حسب دراسات علميّة.
* تقدّم العمر.
* العامل الجينيّ.
* البيئة الملوّثة.
* العمل في المناجم وتنشّق الموادّ المضرّة (الساكنون في مناطق صناعية مثلاً).
* بعض الأمراض المزمنة في الرئة.
ويشدّد صادق على بعض العوارض التي يجب التنبه لها وعدم إهمالها، لأنّها قد تشير إلى الإصابة بسرطان الرئة، وتشمل:
- السعال المفاجىء: في حال دام السعال لأكثر من 3 أسابيع، يجب على الشخص استشارة الطبيب.
- فقدان الشهيّة أو الوزن بطريقة غير إرادية
- ظهور درنات في منطقة الرقبة
- ظهور دم أو بلغم ذي لون أحمر عند السعال
- ألم في الصدر
- تعب وانحطاط
- ضيق في النفس
- تغيير في الصوت
- تورّم في الوجه (يكون في حالات نادرة جداً وطارئة).
ولكن هل يمكن تفادي سرطان الرئة؟
برأي صادق أننا "نستطيع الوقاية منه من خلال التخلّي عن بعض المسبّبات الرئيسيّة كالتدخين، وتشجيع المحيط على القيام بالأمر نفسه، إذ لا يقتصر الضرر على الشخص المدخّن بل على المتلقّي لدخان السجائر أو النراجيل، علماً بأنّ التدخين مسؤول عن 90% من حالات سرطان الرئة، مقابل 10% تعود إلى أسباب جينيّة (وراثيّة) للإصابة بالسرطان.
كذلك أظهرت الدرسات والأبحاث أن الشخص الذي توقف عن التدخين لأكثر من 15 عاماً لديه 90% فرصة لتقليل خطر إصابته بالسرطان مقارنة بالشخص المدخّن".
كيف يمكن الكشف عن سرطان الرئة في مرحلة مبكرة؟
يتحدّث صادق عن أن التشخيص المبكر هو الوسيلة الأنجح للكشف المبكر عن أيّ مرض. وكلّما اكتشفنا المرض باكراً زادت فرص الشفاء أكثر. وإذا كانت صورة الثدي هي الوسيلة الأساسيّة للكشف عن سرطان الثدي عند النساء بعد سنّ الأربعين، وفحص الـPSA للكشف عن سرطان البروستات بعد سنّ الخمسين، فإن صورة "السكانر" تُشكّل ركيزة أساسيّة للكشف عن سرطان الرئة لكلّ شخص مدخّن، وعمره فوق الخمسين. ووفق التوصيات والإرشادات الأوروبيّة والأميركيّة، يُمكن إجراء صورة CT scan low dose (وهو عبارة عن صورة للرئة سنوياً) للتخفيف من تعرّض الشخص للأشعة، لأنّها تساعد في الوقت نفسه على الكشف عن أيّ ورم في الرئة في مراحل مبكرة.
ثورة طبيّة في العلاجات
يؤكّد الدكتور صادق أن "قرار العلاج ليس فردياً بل يأتي قراراً جماعيّاً بين مختلف الأطباء كطبيب الأورام وطبيب الأشعة والاختصاصي في الأمراض الصدرية. فنحن بحاجة إلى صورة قد تكشف لنا ورماً ما، وسنحتاج إلى خزعة للتأكّد من نوع السرطان لتحديد النوع والعلاج الأفضل والأنسب في هذه الحالة.
وعليه، نحن أمام نوعين من سرطان الرئة:
* سرطان الرئة ذي الخلايا غير الصغيرة: وقد شهدنا في هذا المجال تطوّراً كبيراً في العلاجات.
* سرطان الرئة ذي الخلايا الصغيرة: وهو أقلّ شيوعاً ولكنه أخطر.
لذلك من المهمّ تشخيص المرض، ومعرفة نوعه ومدى انتشاره، وهل أثّر على الكبد، أو على الرأس أو على العظام أو على الغدد فوق الكلى؟
ومن الضروري الاجتماع بكلّ الأطباء المعنيّين والجرّاح لتحديد مرحلة المرض والعلاج الأفضل للمريض واستئصال الكتلة السرطانية ليخضع بعدها للعلاج المناسب سواء الكيميائي أو المناعي أو الحبوب.
أما في حال كان المريض في مرحلة متقدّمة، ومعظم الحالات للأسف تكون كذلك، فالعلاج يختلف كما تختلف عوامل أخرى كالوضع النفسيّ للمريض، والدعم النفسي الذي يُسهّل العلاج ويرتبط بتعزيز المناعة، بالإضافة إلى دعمه غذائيّاً، لأن المريض الذي يفقد شهيّته تضعف مناعته؛ لذلك يجب أن يكون يُتابعه اختصاصيّ في التغذية حتى يحافظ على صحّته ويسيطر على المرض.
وأحياناً، نلجأ إلى علاج العناية التلطيفيّة الذي يكون الخيار الأنسب للمريض في حالات متقدّمة جداً من المرض".
ومن المهمّ جداً - وفق ما يشدّد عليه صادق - معرفة أننا "شهدنا تطوراً كبيراً في العلاجات، خاصّة في ميدان سرطان الرئة ذي الخلايا غير الصغيرة. وقد ساعدت الفحوصات الجينية، بالإضافة إلى العلاجات المهدفة، التي تفوقت على العلاجات الكيميائية، سواء بالنتائج أو بالآثار السلبيّة الناتجة من العلاج، وبات بإمكاننا القول إن سرطان الرئة المنتشر يُمكن اعتباره مرضاً مزمناً يُمكن العيش معه سنة أو سنتين أو أكثر مع خيارات علاجيّة متعدّدة، ولا يجب الاستسلام؛ وهناك أمل في العيش حتى عند المريض بسرطان الرئة في المرحلة الرابعة".
يأمل صادق في انفراج الأزمة حتى يتمكّن لبنان من الوصول إلى العلاجات المهدفة والمناعيّة التي أعطت نتائج مذهلة في سرطانات عديدة، ومنها سرطان الرئة، لأنّ المريض اليوم محروم منها للأسف نتيجة الأزمة الاقتصادية. ونتمنّى أن نشهد حلحلة في ملف الأدوية حتى نُعيد الأمل ونتصالح مع هذا المرض.
ولا ننسى أن الجراحة في علم الأورام تُعتبر أفضل طريقة لاستئصال الورم السرطاني وزيادة نسبة الشفاء عند المريض، خصوصاً في المرحلتين الأولى والثانية من المرض.