أحياناً لا نحتاج إلّا إلى علامة واحدة حتى نُدرك أنّ ما نحن مقبلون عليه مخيف وخطير، قد لا تحتاج إلى أكثر من حدث صغير كفيل في أن يقلب حياتك رأساً على عقب. هي لحظة وبعدها ينفجر البركان، وتكون أمام مرض خطير ونهاية قاسية.
تحدث الأمور من دون القدرة على معرفة السبب وراء ذلك، ليس سهلاً أن تكتشف فجأة أنّ في جسمك ورماً خطيراً يهدّد حياتك، وأنّه من أشرس الأنواع وأخطرها. تتأرجح بين الموت والحياة، بين الاحتمالات والنسب والفرضيات، لكنّ صوتاً في داخلك يُبقيك متفائلاً، وقد تكون قصّة خلود قاسم أكبر دليل على أنّ خوض المعركة بكلّ قوّة وعزم بإمكانه أن يأتي بنتائج مذهلة.
تتحدّث قاسم عن تجربتها بهدف زيادة الوعي حول سرطان الرحم، تعرف جيّداً أنّ تجربتها قد تساعد نساء أخريات على الكشف المبكر ومواصلة الفحوص لتفادي الإصابة بورم قد يهدّد الحياة. تروي لـ"النهار" قصّتها قائلة "كنتُ أواظب على اجراء الفحص السنويّ النسائيّ كلّ سنة، لم أكن أهمل صحتي وكنتُ أتمتّع بنمط صحّي، ومع ذلك كان ما ينتظرني بمثابة صفعة قاسية غير متوقّعة. اكتشفتُ بقعة دم في حين أنّ الدورة الشهرية انقطعت عندي منذ سنين، تفاجأتُ، لكنّني لم أذهب أبعد من ذلك في المرّة الأولى."
بعد أسبوع، ظهرت بقعة دم أخرى، وتلك المرّة كان على قاسم أن تتوقّف عندها وتتّخذ قراراً في التصرّف. تعترف "كأنّ هذه البقعة الصغيرة تقول لي "اذهبي عند الطبيب"، وبالفعل ذهبتُ للاطمئنان، إلّا أنّ ما كشفته الفحوص كان صادماً، وأنّ بقعة الدم هذه لم تكن مجرّد علامة عابرة".
تسترجع قاسم تلك المرحلة، مشيرةً إلى أنّ "الفحص الأوّلي لم يكن مطمئناً، ما استدعى إلى إجراء المزيد من الفحوصات وأخْذ خزعة لمعرفة ما يجري حقيقة. وبعد أسبوع تلقّيتُ أصعب اتّصال في حياتي، أنا التي لم أعانِ من أيّ عارض تحذيريّ سابق، وجدتُ نفسي أمام تشخيص صادم. أبلغني طبيبي أنّ نتيجة فحصي إيجابية وأنني مصابة بأحد أخطر أنواع السرطان (very aggressive cancer)، ونصحني بطبيبة متخصّصة في هذا النوع من السرطانات لمتابعة حالتي."
المشكلة في هذا السرطان أنّه لا يكون في مكان واحد وإنّما قد يتواجد في مناطق أخرى من الجسم، في تلك اللحظة توضح قاسم أنّه "لم يتبادر إلى ذهني إلّا فكرة واحدة "هل أنا أموت؟ ليصارحها طبيبها بالقول "ليس بالضرورة ولكن من واجبي أن أشرح لك حقيقة وضعك الصحّي". كانت تلك الليلة التي علمت بإصابتها ومرضها أطول ليلة في حياتها، تصف ما عاشته "كنتُ أشعر كأنّ ملاك الموت حاضر فوق سريري، وفي اليوم الثاني استيقظتُ وذهبتُ لزيارة طبيبتي الجديدة التي سترافقني في رحلتي هذه. لقد أخبرتني أنّني أعاني من سرطان متقدّم في المرحلة الرابعة، إلّا أنّ المفاجأة أنّني لم أكن أعاني من أيّ عارض، وهذا في حدّ ذاته كان خطيراً، ما يجعل السرطان يتفشّى بصمت وهدوء".
إلّا أنّه مقابل هذا الواقع، شدّدت طبيبتها على حقيقة أخرى بالتأثير والقوة نفسيهما، قائلة لها "أنتِ قوية وأنا واثقة أنّك ستنتصرين على المرض". لا تُخفي قاسم أنّ هاتين الكلمتين كانتا كفيلتين من سحبها من الأرض إلى السماء، "لقد أعطتني دفعاً قوياً لبدء المعركة".
بدأت قاسم رحلتها مع السرطان، الخوف كان من انتشار السرطان في أكثر من مكان في جسمها إلّا أنّ الخبر الإيجابيّ أنّه لم يكن كذلك. بعد 6 أيام على التشخيص والفحوص اللازمة، خضعت للجراحة واستئصال رحمها وأكثر من 22 كيساً دهنياً تبيّن أنّها سليمة ولا تحمل أيّ مرض.
مرّت قاسم كما تقول بأوقات صعبة "بكيتُ وضعفت، شعرت أنّ الموت قريب وأنا شخص يحبّ الحياة. ومع ذلك ملكني الإحباط والخوف قبل أن استجمع قواي وأحارب حتى النفس الأخير. ولذلك قرّرت أن أنطلق من تجربتي لزيادة الوعي حول هذا السرطان ومخاطره خاصة أنه لا يرافقه أيّ عوارض تحذيرية أولية. وبالفعل، سجلت حلقات توعوية مع الأطباء للحديث أكثر عن هذا المرض، أسبابه وعلاجاته وكيفية الوقاية منه. علماً أن التوعية حول لقاح فيروس HPV يساعد في تأمين الحماية، 98 في المئة من النساء يصبن بالفيروس و30 في المئة يتحوّل هذا الفيروس إلى سرطان ممكن معالجته في مراحله الأولى، في حين أنّ 2 في المئة من السيدات يواجهن سرطانا شرساً وخطيراً يتطوّر في وقت قصير جداً كما حصل معي".
تتذكر قاسم جيداً ما قاله طبيبها "لو تأخّرتي أسبوعاً فقط كنت ستموتين حتماً من دون أن تعرفي السبب المسؤول. لقد نجوتُ بالفعل، وأريد حقاً أن أجنّب سيدات أخريات هذا الخطر المحدق بهن والذي لا يشعرن به".
هي اليوم تعرف قيمة الحياة أكثر من أي وقت آخر، برأيها "لا شيء يضاهي الصحة، والتجربة مع المرض تجعلك تنظر إلى الأمور بمنظار مختلف، فليس هناك شيء لا يمكن إصلاحه، لذلك حافظوا على صحتكم ولا تهملوها".
ما علينا معرفته عن هذا السرطان
يُشكّل السرطان السبب الرئيسيّ الثاني للوفاة في العالم بعد أمراض القلب والأوعية الدمويّة، ويُعدّ #سرطان عنق الرحم السرطان الرابع الأكثر شيوعاً بين النساء في العالم.
في العام 2020 تمّ تشخيص أكثر من 19 مليون حالة إصابة جديدة بالسرطان، ووفاة نحو 10 ملايين شخص. وفي حلول سنة 2040، من المتوقع أن يرتفع هذا العدد سنويًا إلى نحو 30 مليون حالة سرطان جديدة و16 مليون حالة وفاة، وذلك وفقًا لتقديرات مرصد السرطان العالميّ (Global Cancer Observatory).
في حين قُدّر وفق منظمة الصحّة العالمية عدد حالات سرطان عنق الرحم الجديدة بنحو 604 آلاف حالة في العام 2020، أدّت إلى وفاة 342 ألفًا في العام نفسه.
يوضح الاختصاصيّ في الجراحة النسائية والتوليد، ورئيس مجموعة صحّة المرأة العربية الدكتور فيصل القاق في حديث سابق لـ"النهار" أنّ سرطان عنق الرحم يودي بحياة ما يناهز الـ 320 ألف امرأة سنوياً، أغلبهنّ في دول العالم الثالث، وبينهنّ نحو 90 ألف امرأة في شرق المتوسّط. تدلّ هذه الأرقام على فجوات الأنظمة الصحّية والرعاية الأوليّة في هذه البلدان، خصوصاً أنّه يمكننا الوقاية من الإصابة بسرطان عنق الرحم جرّاء القيام بتقصٍّ روتينيّ كلّ 3 إلى 5 سنوات.
ويختلف سرطان عنق الرحم عن سرطان الثدي لأنّ أسبابه معروفة وهي ناتجة عن الإصابة ب#فيروس الورم الحليمي بطيء التطوّر، وهذا ما يجعله مختلفاً عن مسار سرطان الثدي الذي تتعدّد أسبابه وخطورته البالغة على النساء.
ويشرح القاق عن السبب الرئيسيّ للإصابة بسرطان عنق الرحم والذي يعود إلى الإصابة بفيروس الورم الحليمي (HPV) الناتج من التواصل الجنسيّ غير المحميّ. بالإضافة إلى الأسباب المرتبطة بها وأهمها:
* العلاقات الجنسية المبكرة وغير المحميّة وتعدّد الشركاء.
* التدخين.
* استخدام حبوب منع الحمل لفترة طويلة.
* نقص المناعة.
* الحمل المبكر (زواج المراهقة).
ورغم هذه الأسباب المؤثرة إلّا أنّ الوقاية ممكنة وفعّالة من الإصابة بسرطان عنق الرحم، وتعتمد على السلوك المتعلّق بالجنس الآمن، التقصّي الدوريّ عن طريق فحص القزازة (المسحة المهبليّة) وفحص الـHPV، والأهمّ المنع الأوّليّ عن طريق تلقّي اللقاح بدءًا من عمر الـ11 عام (جرعتان قبل سنّ الـ15 وثلاث جرعات بعد الـ15 لفترة 6 أشهر).
وعن العوارض التي تشير إلى الإصابة بسرطان عنق الرحم، فيُلخّص القاق أهمّها:
- نزيف متقطّع خارج الدورة الشهريّة.
- نزيف بعد مرحلة سنّ الأمان.
- إفرازات غزيرة غير طبيعيّة.
- نزف مهبليّ بعد المجامعة.
- ألم في الحوض.
- تعب.
إلّا أنّ الإصابة لا تعني خسارة الحياة، وهذا ما يُشدّد عليه القاق في حديثه، خصوصاً في ظلّ العلاجات المتعدّدة والحديثة الكفيلة في زيادة نسبة الشفاء. وتختلف العلاجات بين البسيطة والموضعيّة مثل كوي وتقشير أو اجتزاء عنق الرحم، مروراً باستئصال الرحم ومتابعته بعلاجات إضافية كالعلاج بالأشعّة وغيره. ويعتمد نوع العلاج على مرحلة الإصابة عند المرأة ودرجته ومستوى انتشار السرطان.
ولكن من المهمّ التشديد على أنّ هذا المرض قابل للمنع، وليس على أيّ امرأة أن تخسر حياتها بسبب سرطان عنق الرحم. كما أنّ اللقاح آمن وفعّال جدّاً في منع حدوث سرطان عنق الرحم الذي تتسبّب به HPV في مجمل الحالات.