النهار

عن زيارتي الأولى لمعالِجة نفسية
تعبيرية.
A+   A-
 
 
"لا أنسى زيارتي الأولى للمعالجة النفسيّة، ذهبت بتردّدٍ كبير وحاولت تأجيل الموضوع مرات عدة". هي واحدة من العديد من الدردشات التي خضتها مع أصدقاء لي قبل كتابة هذا المقال. صعب وصعب جدّاً واقع الصحّة النفسيّة لدى جيل الشباب، منهم من كسرتهم الأزمة الاقتصادية، ومنهم من عاشوا طفولة قاسية ترافقهم تداعياتها حتى اليوم، ومنهم من رأوا في تفجير 4 آب نهاية العالم...
 
العديد من هؤلاء يقصدون العلاج النفسي. والبعض منعه تنميط العلاج النفسي على أنّه "للمجانين" أو الظروف المعيشية الصعبة من هذا الموضوع، واحدة منهم قالت: "أفضّل أن آكل أنا وأهلي على صرف المال على المعالجين، رؤية أهلي أو إخوتي الصغار من دون طعام ستدمّر نفسيتي إن تعالجت عند أفضل المعالجين".
 
 
"كل يوم أصعب من اللي قبله"
يروي الشاب العشريني زياد (اسم مستعار) المعاناة النفسية التي يعيشها منذ أكثر من سنة ونصف. بغصّة كبيرة، يجيب زياد عن سؤال "عنجد كيفك اليوم؟": "اليوم لستُ بخير وكل يوم أراه أصعب من اليوم السابق، منذ بداية 2021 وأنا بقمّة الانكسار. أحاول أن أتأقلم مع الواقع من خلال اللجوء للعلاج النفسي والخروج مع الأصدقاء والتغاضي عن كل ما يدور من حولي، إلّا أنّ التقدّم بطيء جدّاً".
 
يقطن زياد في ضواحي العاصمة بيروت في منزل متواضع مع أهله وإخوته الذين تجمعه بهم علاقة متوترة في معظم الأحيان. سنة واحدة تفصله عن التخرّج من الجامعة، وهو يتخصّص في مجال الإعلام والصحافة. يعمل زياد أكثر من 14 ساعة يوميّاً، إلّا أنّ تحليق أسعار المحروقات التي لامست 700 ألف ليرة لصفيحة البنزين الواحدة، يجبره على إنفاق أكثر من نصف مدخوله للتنقّلات.
 
أثّرت الضغوط المعيشية والنفسيّة على علاقة زياد بعائلته وأصدقائه، ويقول: "منذ تدهور صحّتي النفسية، أواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع أهلي، فهم لا يفهمونني ولا يكترثون بما أمرّ به. أمّا أصدقائي فهم اعتادوا على شخصيتي الإيجابية، وعندما عجزت عن تقديم هذه الشخصية قرّر العديد منهم تركي. أنا لا ألومهم فكل شخص يمرّ بالكثير من المشاكل وأنا أصبحت إنساناً يعطي طاقة سلبية فعلاً".
 
وعن التوجّه للعلاج النفسي يستذكر زياد إصرار صديق طفولته محمد على هذا الموضوع: "كان محمد يعلم بكلّ ما أمرّ به يوميّاً، وكان يلاحظ تفاقم حالتي يوماً بعد يوم حتى أجبرني على الموضوع لاحقاً. في البداية رفضت الموضوع لعدّة أسباب أبرزها عدم تقبّلي للعلاج النفسي وعدم قدرتي على تحمّل أعباء هذا الموضوع، خصوصاً أنّني من عائلة متوسّطة الحال".
 
ويضيف: "لا أنسى زيارتي الأولى للمعالجة النفسية، ذهبتُ بتردّد كبير وحاولت تأجيل الموضوع عدّة مرات. لقائي الأول كان نهاية العامالماضي، واليوم أشعر بتحسّن بطيء ويعود ذلك لصعوبة حالتي وعدم مساعدة الظروف المحيطة بي بحسب توصيف المعالجة النفسية".
 
يؤمن زياد بأنّ هذا العلاج سيصل إلى خواتيم سعيدة، وممتن لوجود المعالجة النفسية جنبه لأنّها الوحيدة التي تفهم ما يقوله وما يمرّ به. ويتمنّى أن يبقى قادراً على تحمّل الأعباء، ويذكر أنّه لولا تعاون المعالجة معه وخفض الأسعار لتوقّف عن العلاج منذ 3 أشهر.
 
يُذكر أنّ كلّ ما يمرّ به زياد هو بغياب علم أهله، وهو متأكّد من رفضهم لموضوع العلاج لو أخبرهم. لا تزال العديد من العائلات اللبنانية رافضة لهذه المواضيع، وغياب دعم الأهل في هذه الفترات الحسّاسة عند الشباب قد يكون من أبرز الأسباب لتفاقم الأزمات النفسية.
 
 
مبادرة "نحنا حدّك": العلاج النفسي حقّ للجميع
في رحلة البحث عن معالج نفسي، يلاحظ اللبنانيون التفاوت الكبير في أسعار الجلسات. البعض يرضى بالقليل شعوراً بوضع الناس، والبعض قرّر أن يحصر خدماته بالطبقة المقتدرة فقط. وقد وصلت تسعيرة البعض إلى أكثر من 100 دولار للجلسة الواحدة، فهل هذا منطقيّ؟ فجلسات العلاج لا تحتاج لأيّ نفقات بالدولار، ما عدا الإنارة والمكيّف بالحدّ الأقصى.
 
مبادرات نفسية عديدة نشأت في لبنان خصوصاً بعد "4 آب"، بعضها اقتصرت مهمتها على فترة ما بعد التفجير والبعض استمرت حتى اليوم. انطلقت مبادرة "نحنا حدّك" بعد التفجير وما تزال تقدّم خدماتها المجانيّة وشبه المجانيّة حتى اليوم. أسّس المبادرة حسين حميّة وهو طالب في الجامعة اللبنانية، وتضمّ المبادرة أكثر من 75 معالجاً موزّعين على مختلف المناطق اللبنانية.
 
تؤكّد عبير علاء الدين وهي المسؤولة عن الخطّ الساخن (81648150) على الدور الكبير الذي تؤدّيه هذه المبادرة حالياً، مع الكمّ الهائل من الضغوط التي يمرّ بها اللبنانيون. وتضيف عبير: "يلجأ الكثيرون إلينا بسبب ارتفاع تكلفة الجلسات. كما أنّ مبادرتنا تقدّم خدمات "أونلاين" مجانية ما يريح العديد من الأشخاص، فالكثير منهم يفضّلون أن يبقى موضوع تلقّيهم العلاج سريّاً".
 
ترى نجوى أبو عيد حكيم، وهي معالِجة ضمن مبادرة "نحنا حدّك"، أنّ الشباب اليوم أمام ظروف صعبة جدّاً وتقول: "لا يوجد موضوع واحد يسبّب تعباً نفسياً عند الشباب، كل ما نمرّ به يوقظ أحد المشاعر لدى الأشخاص. نحن اليوم أمام واقع صعب ولا يمكن حصر الأسباب أبداً".
 
صادماً كان التقرير الصادر عن منظمة الصحّة العالمية هذا الأسبوع، الذي اعتبر أنّ ربع سكان كوكب الأرض يعانون من اضطرابات نفسية. ودعت المنظمة الحكومات إلى القيام بتحويل في خدمات الرعاية الصحية العقلية على مستوى العالم. يعكس هذا التقرير مدى التحوّل الكبير الذي يشهده هذا العالم، وأنّ كل الابتكارات الجديدة فشلت في إسعاد الإنسان.
 
في لبنان الواقع أكثر صعوبة، فالبلد الذي يموت شعبه وأطفاله على أبواب المستشفيات، من الصعب أن يولي أهميّة لصحّة الشعب النفسيّة. مبادرات خاصّة عديدة استطاعت التعويض قليلاً عن تقصير الجهات الرسمية، إلا أنّ هذا التقصير الرسمي لم يعد مقبولاً. شعبنا يستحق الحياة، والشباب يحتاجون إلى الحدّ الأدنى من الاستقرار لإثبات مقولة "اللبناني ما في أشطر منه"، فتحرّكوا قبل أن ترتفع المعدّلات السلبية ولا سيّما معدّلات الانتحار!
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium