النهار

حرب الخفايا والأسرار
بإنتظار ما ستُبينه الأيام المقبلة (أ ف ب)
A+   A-
غيرت الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة وعلى الضفة الغربية وعلى لبنان، منذ ما يزيد على السنة، صورة المشهد السياسي والأمني في المنطقة، وتوضَّحت من خلال هذه الحرب خفايا وأسرار كان من الصعب رؤيتها أو الحديث عنها قبل اليوم. وقد غَلَبت على مواقف دول وقوى مُؤثرة وفاعلة سِمة الميكيافيلية الانتهازية الواضحة، بينما عاند بعض الأطراف الأخرى الوقائع، وعاش ما يشبه الانفصام عن الواقع المرير، وما زال بعض الأطراف يكابر حتى رمقه الأخير، بينما تبالغ إسرائيل في عدوانيتها المتوحشة، وتدمِّر كل قوارب النجاة التي تؤمن لها وسائل للعودة إلى برّ أمانٍ سلمي وعادل لا يمكن أن تعيش من دونه مهما طال الزمن.
لعلَّ أبرز آخر أسرار هذه الحرب اللئيمة المدمرة ما تمَّ تسريبه عن عرض من الإدارة الأميركية قدِّم لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ويتضمن دفع فدية مالية نقدية لحكومته لكي لا تُقدم على ضرب إيران كرد على هجمات صواريخ طهران مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، أو تجنُّب قصف أهداف استراتيجية إيرانية وازنة كمحطات النفط والمفاعلات النووية كحد أدنى. وقد تفاجأت الأوساط المتابعة بدقة لهذه المعلومات بهذا العرض، لأنه يخفي ميثولوجيا أميركية (ديمقراطية على أقل تقدير) تضمر شيئاً وتعلن شيئاً آخر، خصوصاً في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، واتجاه المنطقة الشرق أوسطية بالتحديد.
وبالفعل؛ فإن الوساطات القطرية والعُمانية والسويسرية بين واشنطن وطهران شغّالة على مدار الساعة، بينما يبذل الرئيس جو بايدن ونائبته كاميلا هاريس وباقي طاقم الإدارة جهوداً كبيرة مع إسرائيل لإبقاء منسوب التوتر مع ايران في الحدود الحالية، ولا يبدي الفريق الأميركي أية عاطفة تجاه ما يجري ضد الفلسطينيين واللبنانيين، وهم يتجاهلون مطلب وقف إطلاق النار حالياً، بانتظار التشفي من قوى عاندت المشروع الأميركي، أو سببت أذى له، كما في حالة حركة حماس الفلسطينية و"حزب الله" اللبناني.
إسرائيل استفادت من اللحظة الدولية المُضطربة للوثوب إلى حلقة متقدمة في سياق مشروعها العدواني، ولا بأس أن يستفيد اليمين المتطرف من هذه الوقائع، كونه كان مأزوماً في الداخل وحكومة نتنياهو كانت مُهددة بالسقوط، ولكن لم يحصل أن خاضت إسرائيل حروباً من أجل بقاء حكومة، أو من أجل تحسين وضع أحزاب سياسية في الانتخابات فقط، وهي على الدوام تستعين بمفردات تشوّه سمعة أعدائها ووسمهم بالإرهاب، وتلجأ إلى رسم صورة قاتمة عن خطر وجودي يُهدد إسرائيل وشعبها برمته. والعناوين "التوراتية" المحرَّفة جاهزة للاستخدام الدعائي، مثل مقولة "أرض الميعاد" وما شابه، والهدف واضح؛ وهو استكمال استيلائها على ما تبقى من أرض فلسطين، والهيمنة عسكرياً واقتصادياً على المنطقة العربية المحيطة برمتها.
ومن خفايا الحرب المشؤومة الدائرة؛ التغييرات الهائلة التي حصلت على العقيدة الحربية العدوانية الإسرائيلية، بحيث لم يسبق لإسرائيل أن خاضت حروباً طويلة كما هو عليه الحال اليوم، بحيث زادت مدة الحرب على سنة كاملة، منذ عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 التي قام بها فلسطينيون نازحون في قطاع غزة، ضد المحيط الإسرائيلي الذي يغتصب أرضهم بالقوة. وكانت عقيدة بن غوريون (مؤسس دولة إسرائيل) العسكرية تعتمد على الحروب الخاطفة والسريعة، لأن اقتصاد إسرائيل وشعبها ومساحتها لا يتحملون حروباً استنزافية طويلة. وبالتأكيد فإن التغييرات التي أحدثها نتنياهو على هذه العقيدة؛ لا تأتي من فراغ، بل إنها مبنية على خطة مدروسة منذ سنوات، ومدعومة مالياً وعسكرياً وسياسياً من الولايات المتحدة الأميركية وحلفاء آخرين، وتهدف الى إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، كما قال نتنياهو نفسه، وقد يكون من الأهداف الأساسية لها السيطرة على الممرات المائية الدولية التجارية الهامة، والهيمنة على ثروات المنطقة النفطية، وضبط الانفلاش الإيراني من دون تقويضه بالكامل، وتعزيز نفوذ واشنطن في الساحات العربية، وعلى البحر المتوسط بما فيه من تأثير على الحلفاء الأوروبيين، لكي لا يخرجوا من تحت الجناح.
ومن أسرار الحرب المشؤومة أيضاً، ما تحدث عنه بكثرة بعض حلفاء ايران، أو المحسوبون عليها في ساحات التوتر، وهؤلاء يقولون إن الخروقات الاستخبارية التي أدت الى إلحاق أذية كبيرة بقوات "حماس" و"حزب الله"، بما في ذلك اغتيال قياداتهم التاريخية، ربما يكون مصدرَها مواكبون إيرانيون للعمل الميداني لهذه القوى، لأن بعض المعلومات السرية عن تحركات الشهيد السيد حسن نصرالله والشهيد إسماعيل هنية لا يعرفها إلا بعض الذين استشهدوا معهم أو المستشارين الإيرانيين .
هل تكون إحدى خفايا الحرب القاسية، موافقة ضمنية من الأميركيين والإيرانيين على إضعاف الأذرع في بعض الدول، وتقويتها في دول أخرى؟ وهل كان بعض الضربات العسكرية المدمِّرة التي قامت بها إسرائيل ضد أهداف في لبنان وفلسطين، درساً لبعض القادة في المنطقة، بعد أن نسي هؤلاء ما جرى للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وللزعيم الليبي معمر القذافي، باعتبار أن مَن يعاند سياسة الحكومة العميقة في أميركا مصيره الموت تحت الركام.
بانتظار ما ستُبينه الأيام المقبلة؛ يعيش اللبنانيون والفلسطينيون في أسوأ حال، وهؤلاء يدفعون فاتورة حرب الآخرين على أرضهم، ويستعملون وقوداً للمعارك غير المحسوبة، وضحايا لعدوان إسرائيلي متفلِّت من كل القوانين والقيود، ومن دون أن يسمح لهم بتنظيم شؤونهم الوطنية الداخلية، بما في ذلك منعهم من انتخاب رئيس. 

اقرأ في النهار Premium