أطفال نازحون يلعبون في ساحة الشهداء في بيروت. (أ ف ب)
لم تشأ الطائرات الإسرائيلية في 23 أيلول (سبتمبر) إلا أن تفرض صوتها وهديرها في الأجواء اللبنانية من جنوبها إلى بقاعها، بعد سنوات من الخروقات التي زادت عن 30 ألفاً، لتُطلق عنان الحرب والدمار والتهجير.
هاتان الكلمتان، رافقتا الشعب اللبناني منذ سنوات. اختلفت الظروف والحروب والتواريخ إلّا أن من صمد مع الكلمتين وثّق لحظات الرعب والدمار والنزوح ورائحة الموت والدم. كيف لا، ولبنان كان الساحة التي تتقاتل عليها الأطراف بحثاً عن رهينة!
تعدّدت الحروب على هذه الأرض، وعاصرتها الأجيال ولم تستطع أن تنساها لبشاعتها فنقلتها إلى الأفواج المقبلة علّ من يأتي يتعلّم ويستخلص العبر. كان لكل جيل في المجتمع اللبناني حرب عاشها ونقلها إلى من لحِقه، ولا شكّ أن التعداد يطول إلّا أن أقرب هذه المراحل كانت الحروب والجولات عام 1975، 1982، 1989، 2000، 2006 وآخرها اليوم عام 2024، حرب "شرعية" بكامل فصولها بين إسرائيل و"حزب الله".
"جيل التسعينيات" أو المعروف بـ"جيل ما بعد الحرب"، عاش جولة تموز (يوليو)عام 2006 بعمر الطفولة على فظاعها، واليوم يختبر الحرب رسمياً من أكثر من أسبوعين. المشاهد مكرّرة، والأصوات مكرّرة والمعاناة أيضاً. لربّما الفرق بين الحربين، كان وضوح الصورة من ذاكرة ولد لم يتخطَّ الـ10 سنوات وبين ذاكرة ناضجة لابن الـ27 عاماً.
حرب هذه الأيام ومآسيها على لسان كل لبناني، طفل يسأل عن الأصوات التي يسمعها وآخر ينزح مع عائلته تاركاً كل شيء بدون أن يفهم ماذا يحصل، وأهل يسعون لإبعاد أولادهم عن الحرب ودمارها وتداعياتها، فهم عاشوها في يوم ما ولا زالت ذاكرتهم حيّة على مشاهد لا يريدونها في ذاكرة أطفالهم.
ممّا لا شك فيه أن الحرب تطال كل لبناني، فأيامه يخرقها صوت طائرة الـ"أم ك" وجدار الصور، والصورة صورة دمار منازل وقرى خالية. "جيل ما بعد الحرب" في كل الأحوال في الموقع نفسه: حديثه عن الحرب، أيّامه في الحرب، ومستقبله في الحرب وبعدها. النقاشات عن الحرب والأسئلة عن الحرب. كل ما يراه في الذاكرة وما يسمعه أيضاً.
هي الحرب الأولى الكاملة لهم بغض النظر عن توقيت نهايتها. تابعوها وراقبوها وحلّلوها، عاشوا رعبها وصوتها وتصاعدها وتطوّراتها. قبل أن تطوي "جبهة الإسناد" عامها الأول، قرّرت إسرائيل بمن يحكمها بعد 11 شهراً من التصعيد - ضمن قواعد الاشتباك - أن تجعل حربها بدون قواعد. وصباح 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 قرّر "حزب الله" بدون تفويض ولا سؤال أن يُساند غزة بحربها من جنوب لبنان...
ما كان إبعاد كأس الحرب عن لبنان إلّا تمنّياً بين أهل هذه الأرض وساكن السماء، لعلّ الجيل الحالي المعروف بـ"جيل ما بعد الحرب" لا يُصبح "جيل الحرب". ولكن مع ما نعيشه يومياً وبغياب أفق الحل حتّى الآن، صار جيلنا مرتبط بحرب سينقلها إلى الجيل اللاحق فتكون ذاكرة حزينة وعبرة لأيّامه ومستقبله. بالطبع تختلف تسميّات الحرب وظروفها إلّا أن حقيقتها حرب ونتائجها نتائج حرب.
من عام 2019، منذ 5 سنوات، تراكمت على "جيل ما بعد الحرب" الأزمات: ثورة، أزمة اقتصادية، كورونا، حرب... وما بينها من مشاكل أخرى. بعد كل محنة، ترى اللبناني يتأقلم إيماناً منه أن الفرج قريب والاستقرار لمستقبله أيضاً أو أن الحل بعيد ولا مجال إلّا العيش. ولكن الحرب عادة بشعة ومقزّزة والأصعب التأقلم معها، فكيف تستمر والصورة أمام عينيك مدمّرة وتفكيرك في مستقبلك يلفّه الحيرة والغموض، وأيّامك الحالية لا تعيشها إلّا بالحزن والخوف...
كُثر من اعتبروا أن ما حصل ويحصل كتَبه الله لنا، ولك من قال إن الله أراد الحرب والدمار والتهجير...