صحف إيرانية تبرز نبأ مصرع أمين عام "حزب الله" حس نصر الله (أ ف ب)
لعقود عدة، أصرّ "حزب الله" على أنه الوحيد القادر على حماية لبنان من أي عدوان إسرائيلي، وقد عزّز تحرير الجنوب في عام 2000، بعد 18 عاماً من الاحتلال، زعمه هذا، وكان الجيش اللبناني آنذاك أضعف من أن يؤدي هذه المهمّة.
لكن، منذ خروج إسرائيل من جنوب لبنان، صار وجود "حزب الله" العسكري خارج إطار الشرعية عبئاً ثقيلاً على كاهل البلد. إلى ذلك، أخفق في ردع إسرائيل عن مهاجمة لبنان، ويمكن القول إن أفعاله شجّعت إسرائيل على تنفيذ أعمالها العدوانية ضد لبنان، ابتداءً بسبب اندلاع حرب تموز (يوليو) 2006، وليس انتهاءً بالمواجهة القاتلة المستمرة اليوم مع الدولة اليهودية.
معلوم أن "حزب الله" ليس مسؤولاً وحده عن رسم دوره وتسلّحه وتوسيع نفوذه، إذ حظي لسنوات عدة بالدعم السياسي والعسكري من إيران وسوريا. فطهران ترى في الحزب "عروة وثقى" توحّد شبكة إقليمية من الفصائل العسكرية الموالية لها، والمنخرطة في صراع دائم مع إسرائيل. وتمثلاً بإيران، لم يجد "حزب الله" في حدود لبنان أو سيادته قيوداً في صراعه مع إسرائيل، وهو يعتقد أن مواجهة ناجحة مع إسرائيل تتطلّب توحيد الجبهات الإقليمية كلها، في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة.
شهد صيف عام 2006 أول تطبيق حقيقي لسياسة وحدة الساحات، حين عبر عناصر "حزب الله" إلى شمال إسرائيل وأسروا جنديّين إسرائيليّين. كان الهدف التكتيكي لتلك العملية فرض تبادلٍ لأسرى لبنانيين وفلسطينيين مع إسرائيل، ومساعدة "حماس" في مواجهتها مع إسرائيل في غزة، لكن الهدف الإستراتيجي التي رسمته إيران كان فرض أمر واقع جديد على إسرائيل، تتوحّد فيه ساحتا القتال الفلسطينية واللبنانية.
أدّى هجوم "حزب الله" حينها إلى 34 يومًا من القتال الشرس مع إسرائيل، خرّب لبنان وأودى بحياة أكثر من 1100 شخص، وسوّى جزءاً كبيراً من جنوب لبنان بالأرض، ودمّر البنية التحتية في أنحاء البلاد.
دفع ألم الشعب اللبناني وغضبه من "حزب الله" بأمينه العام حسن نصر الله إلى إصدار اعتذار علني بعد تلك الحرب، قائلاً: "تسألونني، لو كنت أعلم يوم 11 تموز (يوليو)... أن العملية ستؤدي إلى حرب كهذه، هل كنت سأقوم بها؟ أقول لا، بالتأكيد لا".
أصاب كثيرون في تشكيكهم حينها في صدق نصر الله. فبعد ثمانية عشر عاماً، أمر رجاله بتكرار الأمر نفسه، غير أن رهانه في هذه المرة كان أشد خطراً على حزبه، وعلى لبنان كله.
فكما حصل تقريباً في عام 2006، وبعد يوم من هجوم "حماس" على مستوطنات غلاف غزة، فتح "حزب الله" في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 الجبهة ضد الدولة اليهودية تضامنًا مع "حماس" التي كانت تجاهد لاستيعاب الانتقام الإسرائيلي الهائل.
لم يتّضح بعد إن كانت إسرائيل قد نجحت في كسر إرادة إيران بالقضاء على "حماس" وإلحاق الضرر الكبير بـ"حزب الله"، لكن المؤكد هو أن لبنان لا يستطيع الاستمرار في ظل الظروف الحالية، ولا يمكن "حزب الله" أن يستمر خارج إطار الشرعية اللبنانية، من دون رقابة ولا مساءلة. ولا يستطيع وحده التصدي لقوّة أجنبية، والأهم من ذلك كله، لا يستطيع الإمساك بقرار الحرب والسلم من جانب واحد، نيابة عن اللبنانيين كلهم. فهذا ليس طبيعياً، وليس دستورياً في أي مجتمع.
الكلام أسهل من الفعل، طبعاً. فليس في تجربة "حزب الله" وفلسفته ما يوحي بأنه سينطوي على نفسه، أو يغير أساليبه جذرياً. فهو مرتبط عضويًا بالمرشد الأعلى في إيران، ونأيه بالنفس عن الجمهورية الإسلامية يعني الانتحار.
لكن من المفارقات أن المسار الذي اختاره "حزب الله" جعله أقرب إلى التدمير الذاتي. فقد قتلت إسرائيل معظم قادته السياسيين والعسكريين، بمن فيهم نصر الله نفسه، الأمين العام الذي لم يجدوا له بديلاً. ودمّرت مقرات الحزب، واخترقته بشكل لم يسبق له مثيل، وأفرغت معظم جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية من السكان، حيث تتركز البيئة الحاضنة لـ"حزب الله". وفي أثناء كتابة هذه السطور، كانت القوات الإسرائيلية تقاتل على طول الحدود مع لبنان، وربما تغزو لبنان مرة أخرى لتوجيه ضربة قاضية للحزب. لم يسبق في تاريخ "حزب الله" شعور بيئته بهذا القدر من الذعر، وبهذا القدر من عدم اليقين بشأن مستقبله.
مغالطة أو سذاجة القول إن تحوّل "حزب الله" إلى كيان سياسي بحت، توازياً مع دمج قواته في صفوف الجيش اللبناني، سيُبعد التهديدات الإسرائيلية. مع ذلك، سيكون لبنان أقوى دائماً في الدفاع عن نفسه وفي حماية سيادته إذا توحّد بنوه، وهذا أمر لم يكلّف "حزب الله" نفسه عناء تقديره أو السعي إلى تحقيقه. فعلياً، ليست صواريخ إيران صمّام الأمان الأقوى لـ"حزب الله" وأنصاره من الشيعة، بل التفاف الشعب اللبناني حوله. لكن، كي يكسب الحزب هذا الدعم، عليه أولاً أن يلقي سلاحه، ويتحول إلى شريك في إعادة إعمار لبنان، على قدم المساواة مع الأطراف اللبنانية الأخرى.
بلال صعب هو رئيس برنامج الدراسات الأميركية الشرق أوسطية في "مؤسسة تريندز للبحوث والاستشارات"