النهار

القيادة من أجل السلام: كيف ينشر القادة قيم التسامح؟
د. إلهام الشحيمي
المصدر: النهار
يشكل تحقيق السلام المستدام أحد أهم التحديات التي تواجه العالم المعاصر. وفي ظل التنوع الثقافي والديني وتعدد اللغات، أصبح نشر قيم التسامح والتعاطف ضرورياً لبناء مجتمعات سلمية ومستدامة. يؤدي القادة دوراً محورياً في هذا السياق، إذ إنهم المؤثرون الرئيسيون في تشكيل الرأي العام وتوجيه سلوك الأفراد والمجتمعات.
القيادة من أجل السلام: كيف ينشر القادة قيم التسامح؟
تعبيرية
A+   A-

 نسعى في ما يلي، إلى استكشاف الآليات التي يمكن من خلالها القادة، على مختلف المستويات، نشر قيم التسامح والتعاطف، انطلاقاً من الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة الذي يركز على بناء مجتمعات سلمية وشاملة للجميع، وتوفير سبل الوصول إلى العدالة، وبناء مؤسسات فعالة ومساءلة، وتعزيز الشمولية على كل المستويات.

 

 دور القيادة في نشر قيم التسامح والتعاطف

تتمثل أهمية القيادة في قدرتها على التأثير في سلوك الأفراد والمجتمعات وتوجيههم نحو تحقيق أهداف مشتركة. إن دور القيادة في نشر قيم التسامح والتعاطف، حيوي ومؤثر. عبر ممارسة القيم الإيجابية، وتبني سياسات داعمة، وبناء مؤسسات قوية، يمكن القادة أن يساهموا بفاعلية في بناء عالم أكثر سلاما وتسامحا.
إن دور القيادة في تشكيل ثقافة التسامح والتعاطف يتجاوز كونه مجرد نموذج يحتذى، ليصل إلى صميم تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولا سيما الهدف 16. فالقادة، بصفتهم مهندسي المجتمعات، يتحملون مسؤولية بناء مؤسسات قوية عادلة، وتعزيز سيادة القانون، وحماية حقوق الإنسان. من خلال توفير بيئة آمنة وشاملة، يمكنهم أن يشجعوا على المشاركة الفعالة في الحياة العامة، بما يساهم في بناء مجتمعات أكثر تماسكا واستدامة. فبدمج قيم التسامح والعدالة في صميم السياسات والبرامج، يمكنهم تحقيق الهدف 16، وضم مجتمعات سلمية وشاملة، وتوفير سبل الوصول إلى العدالة للجميع، وبناء مؤسسات فعالة فيها منظومة مساءلة، وتعزيز الشمولية على جميع المستويات. وعبر التعاون مع مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية والحضارات المختلفة، يستطيع القادة أن يبنوا جسورا من الثقة والتفاهم، مما يساهم في حل النزاعات بالطرق السليمة، مهما يكن جذرها وسببها، وبناء مجتمعات أكثر استقرارا وازدهارا تركز على التنمية والتقدم.

تضطلع القيادة بدور محوري في تشكيل ثقافة التسامح والتعاطف الإنساني، داخل المؤسسات والمجتمعات. فالقادة، بصفتهم قدوات، يحملون على عاتقهم مسؤولية ترسيخ ممارسات إيجابية تعكس قيم الاحترام والتقدير للآخر وفق منظومة وطنية من جهة، ومؤسساتية وثقافية من جهة أخرى. يكون ذلك ببناء ثقافة مؤسسية تقوم على التنوع عند تأسيس المؤسسة، والاحترام المتبادل يمكّن القادة من أن يشجعوا على التعاون والتكامل بين الأفراد والجماعات. فالتنوع، بعيدا من كونه مصدرا للصراع، سيكون مصدر غنى، وثروة يجب الاحتفاء بها والعمل على استثمارها لضمان انتشار عمل المؤسسة. وعندما يمارس القادة هذه القيم في حياتهم اليومية، فإنهم يزرعون بذور التسامح في نفوس من حولهم، إضافة الى تطبيق السياسة الداخلية القائمة على هذه الأفكار، وهو ما يساهم في بناء مجتمعات أكثر انسجاما وتماسكا.

في هذا السياق، لا ينفصل التسامح عن مفهوم العدالة، فالقادة الحقيقيون هم الذين يسعون إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير فرص متساوية للجميع، بغض النظر عن اختلافاتهم. وفكرة التساوي والإنصاف في هذه الحالة، تعني القدرة على الوصول إلى كل الموارد بغض النظر عن الخلفيات.

النزاعات جزء لا يتجزأ من أي مجتمع، لكن القائد الحكيم هو من يسعى إلى حلها بطرق سلمية وعادلة، وخصوصاً على صعيد المؤسسات. في ظل التنوع، من الطبيعي أن تظهر اختلافات في الرأي والتوجهات، لكن القائد الناجح هو من يستطيع إدارة هذه الاختلافات وتحويلها إلى قوة دافعة للإبداع والتقدم، وخصوصاً في الإطار المؤسساتي، الذي يمكن أن يضم أفرادا من مناطق مختلفة من العالم. ومن خلال تبني مبادئ الحوار البناء والتفاوض، يمكن القادة أن يشكلوا فضاءً آمنا للتعبير عن الآراء المختلفة والاستماع إليها باهتمام، عبر مساحات مهمة للتواصل. وعليهم أن يضمنوا تطبيق العدالة بعدل وشفافية، وأن يوفروا الفرص المتساوية للجميع للمشاركة في صنع القرار. هذا النهج لا يقتصر على حل النزاعات فحسب، بل يساهم أيضا في تعزيز الثقة والتعاون بين أفراد المجتمع، وهو ما يتماشى مع الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة لبناء مجتمعات سلمية وشاملة للجميع.

 آليات نشر قيم التسامح والتعاطف

إن نشر قيم التسامح والتعاطف في المجتمع هو مسؤولية اجتماعية، ووسيلة لتحقيق التنمية المستدامة وبناء مجتمعات أكثر عدالة وسلاماً. يتطلب ذلك التزاماً من المواطنين، في أي بلد كان. أساس المجتمعات السلمية هو التعاون، مما يشكل بيئة خصبة للتنمية في ظل تماسك اجتماعي. فالناس يشعرون بالانتماء إلى مجتمعهم، ويسعون إلى تطويره وتحسينه. وهذا التماسك الاجتماعي يزيد قدرة المجتمع على مواجهة التحديات المشتركة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. 

إحدى أهم ركائز نشر قيم التسامح والتعاطف، الاستثمار البشري وتقدير أهمية المشاعر الإنسانية. فالاستثمار في بناء مجتمعات تسودها قيم التسامح والتعاطف هو استثمار في رأس المال البشري. والذين يشعرون بالانتماء والقبول يكونون أكثر إنتاجية وإبداعاً، مما يساهم في تحقيق النمو الاقتصادي.

لتحقيق الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة، على الدولة أن تتبنى مجموعة متكاملة من السياسات والإجراءات التي تشجع على نشر قيم التسامح والتعاطف، وأن تعمل على بناء مؤسسات قوية قادرة على تطبيق هذه السياسات. وللوصول إلى مجتمعات سلمية وشاملة للجميع، كما ينص عليه الهدف 16، يتعين على الدول تبني استراتيجيات شاملة تعزز قيم التسامح والتعاطف. يجب أن تشمل هذه الإستراتيجيات تشريع قوانين عادلة تضمن المساواة وحماية حقوق جميع الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم، مع التركيز على مكافحة التمييز والكراهية.

بالتوازي مع ذلك، يجب العمل على تعزيز التعليم الشامل الذي يغرس في نفوس الأجيال قيم التسامح والاحترام المتبادل وحق المشاركة. إن تصميم مناهج تعليمية تعكس التنوع الثقافي وتشجع الحوار البناء، يبني مجتمعات أكثر تفهماً وتقبلاً للآخر.

والواقع أن دور المؤسسات الدينية في نشر قيم التسامح لا يقل أهمية، مع ترك حرية الخيار أو اختيار الدين نفسه. لذا يجب دعم هذه المؤسسات في جهودها لتعزيز التعايش السلمي بين الأديان، والتوضيح أن جميع الأديان تدعو إلى السلام والمحبة مع الحفاظ على حرية الاختيار الفردي للانتماء إلى دين أو لا، والربط بثقافة المواطنة.

ولا يمكن تجاهل دور الإعلام في تشكيل الرأي العام. يجب تشجيع الإعلام على نشر محتوى إيجابي يعزز الوحدة الوطنية، ويكافح الخطاب الذي يحرض على الكراهية والعنف ويشعر الآخر بأنه معزول أو مهمش بسبب دينه، وذلك عبر الأخذ برأيه أو إشراكه في أي عملية مع الحفاظ على التوازن.

 

ولتحقيق التماسك الاجتماعي، على الدولة تنظيم فعاليات ثقافية واجتماعية تجمع الناس من مختلف الخلفيات، وتعزز الحوار والتبادل الثقافي في مساحات عامة بالتعاون مع مؤسسات الدولة في أرجاء البلاد، على مختلف أشكال اللامركزية أو الفيديرالية. هذه الفعاليات تساهم في بناء جسور الثقة والتفاهم بين فئات المجتمع.

 

إن تحقيق مجتمعات سلمية ومتسامحة يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، بدءًا من الحكومات وصولًا إلى الأفراد. 

 بناء بيئة عمل متسامحة ركيزة لتحقيق الهدف 16

في عالم يتوق إلى التغيير، يبدأ التحول الحقيقي من داخل المؤسسات. فبناء بيئة عمل متسامحة ليس مجرد شعار، بل هو استثمار في مستقبل أفضل، حيث يساهم كل فرد بقدراته الكاملة، من دون قيود أو تمييز. في عالمنا المعاصر الذي يشهد تحولات متسارعة وتنوعا ثقافيا واجتماعيا متزايدا، أصبح بناء بيئة عمل متسامحة ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى. فالمؤسسات التي تستطيع تشكيل بيئة عمل شاملة، حيث يشعر جميع الموظفين بأنهم ينتمون ويقدرون، هي تلك التي ستحقق النجاح على المدى الطويل.

 بيئة العمل المتسامحة هي حجر الزاوية في بناء مجتمعات مسالمة. من خلال توفير بيئة عمل تحفز على الحوار والتسامح، تساهم الشركات في تقليل التوترات والصراعات، وجو العمل المسموم، وتعزيز التماسك الاجتماعي والتعاون بين الموظفين على مهمات داخل المؤسسة. هذا بدوره يساهم في تحقيق الاستقرار والسلم المجتمعي، وهو أحد الأهداف الرئيسية للهدف 16 من التنمية المستدامة. وتأثير القادة يكون عبر تشجيع التنوع والشمول من خلال تطوير موظفين من خلفيات مختلفة، وتوفير برامج تدريبية توعوية على التنوع والشمول. يضاف إلى ذلك تعزيز بناء قنوات تواصل فعالة، عبر توفير منصات آمنة للموظفين للتعبير عن آرائهم ومخاوفهم، والعمل على حل النزاعات في شكل بناء، ودعم المبادرات المجتمعية بتشجيع الموظفين على المشاركة في نشاطات تطوعية، ودعم المشاريع الهادفة إلى خدمة المجتمع. 

التسامح ليس مجرد شعار، بل هو أسلوب حياة، ومسؤولية مشتركة تقع على عاتق كل فرد في المجتمع. فمن خلال توجيه المجتمع من كل الفئات نحو قيم التسامح والتعاطف، وتبني هذه القيم في حياتنا اليومية، يمكن تخفيف الحروب القائمة على سوء التفاهمات، وجذرها الاختلاف والتنوع. 



    

اقرأ في النهار Premium