جواد الساعدي
في هذه الأيام، تمرُّ الذكرى الخامسة لانتفاضة تشرين (أكتوبر) في بغداد وبيروت، التي جاءت تعبيراً عن حدة الاحتقان الذي خلّفته السياسات الميليشيوية في العراق ولبنان، بالهيمنة على مؤسساتهما الشرعية، وتدمير أسس الدولة فيهما، والازدراء بالهوية الوطنية لكلا شعبيهما من خلال الالتحاق التام بالسياسة الإيرانية ومشروعها الإمبراطوري التوسعي القائم على الطائفية والعنصرية؛ وذلك بعد سنواتٍ طوال من المعاناة وغياب الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، واستشراء الفوضى والفساد وانتشار البطالة والفقر والتدهور الاقتصادي وانعدام الخدمات الأساسية، وغياب القانون، وسيادة القمع والاغتيالات.
قُمعت الانتفاضة التي جاء صوتها مدويّاً بوجه طهران: "إيران برّا برّا (...)"، بكل أنواع العنف وأساليب القتل الوحشي وكل صنوف الإرهاب بقيادة رموز طهران، وجرت شيطنة الحراك الشعبي وإلصاق تهم التخوين والعمالة للسفارات بجماهيره الواسعة التي خرجت تعبّر عن إرادتها بوطنٍ حر، سيّدٍ مستقل، وبكرامةِ عيشٍ وخدماتٍ مفقودة وأمنٍ غائب وحرياتٍ مقموعة، خصوصاً بعد أن وصف خامنئي انتفاضة الشعبين بأنها "شغَب"، ودعا ميليشياته إلى "معالجتها".
لا أعتقد أن رأس الهرم في طهران، الذي يوصف عند مريديه بأنه "الأعلم"، كان يجهل أسباب الانتفاضة التي كانت ملحوظة لكل مراقب نزيه، لكنه تجاهل تلك الأسباب ومضى يقف وراء حملة قمعٍ دموية علنية شابهت، أو فاقت في دمويتها أحياناً، ما كان يقوم به النظام العراقي البائد سرّاً وعلانية؛ مضى غير آبهٍ، ليس بالمشاعر الوطنية فحسب، بل أيضاً بحرمة الدم حتى لـ"أبناء طائفته" الشيعية، وأرسل تهديدات غير معلنة لبعض رموزها الوطنية التي كانت تقف خلف المتظاهرين، وإلى جانبهم، أو اشتركت جماهيرها في الحراك بفاعلية، وتصدّت بالأرواح لجرائم ميليشياته في حق المعتصمين في الساحات.
على الرغم من قمع الحراك بالدم، كان يحدونا الأمل أن تستخلص طهران، بـ"الحكمة والدهاء الفارسي" الذي سمعنا عنه كثيراً، الدروسَ والعِبَر مما جرى، فتُراجِع سياستها وتلتفت إلى ممارسات ميليشياتها التي تسيطر بواسطتها على عواصمنا العربية الأربع، لكننا لم نشهد إلا استمراراً للقمع والتفافاً سياسيّاً على المطالب التي خرجت بها الجماهير، ورأينا مزيداً من التدخلات والتهديدات ومحاولات الاغتيال بالمسيّرات لرموزٍ سياسية معارضة، وقصفٍ بالصواريخ طال أراضي عراقية، والمزيد المزيد من نهب الثروات لصالح "الجمهورية الإسلامية".
في هذه الأيام، حيث تمرُّ الذكرى التي يُفترض أن تُستحضَر فيها الدروس، ولو بعد خمسة أعوام، نرى أن الإيرانيين لم يتخلّوا بعد عن وقاحتهم السياسية؛ فعلى الرغم من أنهم لا يزالون يتبعون سياسة النعامة في مواجهة إسرائيل في وقتٍ يدفع فيه الفلسطينيون واللبنانيون ثمن هذه المواجهة دماً وخراباً وتهجيراً، يطلع علينا رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، بإعلانه "استعداد طهران للتفاوض مع فرنسا من أجل تطبيق القرار 1701"، متجاهلاً بذلك شعب لبنان وحكومته وبرلمانه، ومعتدياً على سيادته واستقلاله، وعلى رموزه الروحية التي اجتمعت في الصرح البطريركي لتوحيد الموقف الوطني على المستوى الشعبي في ظل ظروفٍ تُنذر بالفتنة، فأصدرت نداءً وطنياً جامعاً، كما وصفه الرئيس نجيب ميقاتي، وذلك على قاعدة المطالبة بـ"الشروع فوراً بتطبيق القرار 1701 كاملاً"، لا على قاعدة التفاوض عليه، كما يريد قاليباف؛ وكذلك بالارتكاز على "التمسّك بالدستور اللبناني واتفاق الطائف وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة وبقرارها الحر وبدورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية ومسؤولياتها تجاه شعبها وضمان أمنه واستقراره وازدهاره".
لا بد لنا من الملاحظة في هذا السياق بأن الرغبة الإيرانية بالتفاوض على القرار 1701 بدلاً من الدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية، تلتقي مع الضغط الأميركي على لبنان للقبول بتعديله، على الأقل في انتهاك سيادة لبنان وحقه الشرعي في اتخاذ قراراته.
ولا شكَّ هنا في أن تصريحات قاليباف قد أصابت في الصميم الارتياح الذي بعثته القمة الروحية في أوساط النازحين وأشقّائهم في البيئات الوطنية الحاضنة، خصوصاً المسيحية منها، لا سيّما بعد تبادل القبلات الأخوية بين صاحب الغبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي، والشيخ علي الخطيب، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى؛ ولنا أن نتصور أيضاً حجم المرارة التي تركها التصريح الإيراني في حلق الرئيس نبيه بري، "الأخ الأكبر لدى السيد، ولدى كل حزب الله"، كما خاطبه الشيخ نعيم قاسم، وعبّر عن ملء الثقة بقيادته للحراك السياسي من أجل تحقيق وقف إطلاق النار؛ وذلك على الرغم من قول برّي في لقاءٍ تلفزيوني فيما بعد: "ليس صحيحاً أن إيران تعوق مسار خطتي لإنقاذ لبنان"، فهو في كل الأحوال، ذلك الذي لا يختلف معظم اللبنانيين على دوره وقدرته على تدوير الزوايا الحادة، وإن اختلف معه بعضهم، حتى حين يجتمعون إلى طاولته.
إنَّ تصريحات قاليباف وهي تسيء إلى سيادة لبنان، فإنها تُسيء بشكلٍ أشد لكل أبناء الطائفة الشيعية فيه وتطعن في هويتهم الوطنية، وتؤكد صورتهم في نظر معظم مواطنيهم كجماعةٍ تسيّرها إيران ولا تمتلك قرارها الوطني المستقل؛ وتلك صورةٌ فيها إجحافٌ كبير وتعميمٌ مخل وتجاهلٌ للتأثيرات الإقليمية والدولية على التكوين اللبناني، التي يرفضها الوطنيون اللبنانيون من كل الطوائف، ويناضلون في سبيل التخلص منها.
إنَّ احترام الهوية الوطنية وخصوصيّاتها من أهم الدروس التي كان على إيران أن تستخلصها من انتفاضة تشرين (أكتوبر) في بيروت وبغداد، لكنْ يبدو أنها لم تفعل ولن تفعل، فهذه التصريحات غير الجديدة في مضمونها السياسي، ليست سوى استمرارٍ للخط الإيراني الوقح بالتجاوز على الهوية وعلى سيادة الدول العربية، والمتبجح بالسيطرة على أربعٍ من عواصمها، المدّعي أن بغداد عاصمة الأمبراطورية الفارسية، والطامع بالشواطئ العربية للخليج، كما تشير الخريطة المعلقة دائماً وراء المتحدث بلسان الخارجية الإيرانية. لكنَّ هذا الخط الإمبراطوري التهديدي ذا المطامع التوسعية، لا يمكن قبوله من قبل شعوبنا العربية، حتى وإن قال رأس هرمه بعد قمع الانتفاضة بالدم: "أنا أحبكم يا شباب العراق"، أو أكل وزير خارجيته اليوم، "الكشري" في مطاعم القاهرة، أو حتى "التبّولة" في بيروت غداً؛ لا بل كل الأكلات في مطاعم الدول العربية وبيوتاتها المضيافة.