كمال بكاسيني
قد حانت ساعة الحقيقة. لم يعد الاكتفاء بتجرّع السّم الذي دسّه أولئك المتستّرون بعباءة السّرديّات الدينية والإلهية كافياً للتخفيف من عمق الانكسار الذي يعيشه اللبنانيون، بل أصبح هذا الأمر بمثابة بناء مقابرَ جماعية تُدفن فيها أحلامهم وآمالهم بمستقبل أفضل.
وكما نقل الكاتب سمير عطالله عن الروائية التركية "أليف شافاك": أكثر اللحظات رعباً هي عندما نستسلم للامبالاة. هنا تكمن المعركة الأشدّ خطورة التي يخوضها اللبنانيون الذين تذوّقوا مرارة خيانة زعمائهم للوطن وتقديمهم المصالح الشخصيّة مقابل حفنة من الأموال والمناصب.
لتخفيف آلام الخيانات المتتالية من زعماء ما بعد اتفاق الطائف التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، لا بدّ من العودة إلى صفحات التاريخ التي توثق مرور رجالات دولة استثنائيين، كانوا أوفياء لوطنهم، وما زال اللبنانيون يستلهمون من تجربتهم السياسية دروساً حول بناء الدولة وصون مؤسّساتها.
الرجال الذين نحتاجهم اليوم هم من طينة الرئيس فؤاد شهاب، الذي وضع نموذجاً ناجحاً لتسير الأجيال الجديدة على خطاه في مسيرتها نحو المستقبل. شهاب، الذي كرّس جهوده لبناء الدولة وتحصينها عبر إصلاحات إدارية عميقة، أرسى الاستقرار في لبنان عبر قيادته للجيش ومن ثم رئاسته للجمهورية، محصّناً بلده وسط بحر من الصراعات الطائفية والتوترات الإقليميّة. ولا يمكن الحديث عن عمالقة السياسة في لبنان من دون الإشارة إلى آخر العمالقة وفتى العروبة الأغرّ، الرئيس كميل شمعون الذي تصدّى لمشاريع التوطين والهيمنة السورية على لبنان، وبرز بأسلوبه الفريد في بناء العلاقات الخارجيّة وتعزيز نهج الانفتاح في سياسة الدولة.
الرئيس الشهيد بشير الجميّل كان من طينة القادة النادرين، فهو بحقّ رجل لم يتسع له المكان. تبنّى قضية لبنان بمساحته الكاملة ١٠٤٥٢ كلم² كقضيّة لا تقبل التنازل أو التجزئة، وواجه كلّ محاولات تطويقها أو تحجيمها. وفي وقت بات فيه لبنان في أمسّ الحاجة إلى قادة يكتفون بأرضه كقيمة وطنيّة، ويغلّبون مصلحة الوطن على أيّ ولاءات أخرى، نجح الجميّل في فرض هيبة الدولة على الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء، ومنع الاستخفاف بدور مؤسّساتها العامة والرسمية. أعاد الروح والفاعلية إلى هذه المؤسسات، رغم أنّه لم يتسلم رسميّاً مهامه الرئاسيّة ولم يصل في حينه إلى القصر الرئاسي.
غاب عن بال الممسكين بالمناصب، والموعودين بها، والمتلهّفين إليها، أنّ من يصنع قيمة المنصب هو الشّخص الذي يشغله، لا العكس. كان هذا جليّاً في مسيرة الرئيس الياس سركيس، الذي اجتاز حاكميّة مصرف لبنان ثم القصر الجمهوري، مجسّداً نموذجاً في النّزاهة والكفاءة، مسخّراً منصبه لخدمة أبناء وطنه. لم يكتفِ بذلك، بل رفض التمديد في القصر الرّئاسيّ، متمسّكاً بما يمليه عليه الدستور، ومؤكّداً أن احترام المؤسسات هو أساس بناء الدولة.
لا ينبغي للّبنانيين التخلّي عن الإرث العظيم الذي تركه أولئك الرجال لهم، وتسليمه لمن دمّر أرضهم وزرع فيها الفوضى والدمار. هذه الكلمات دعوة لإحياء الذاكرة، كي يقارنوا ويدركوا أنّ لبنان ليس مجرّد ساحة للنزاعات والحروب، بل هو أرض خصبة قادرة على إنتاج قادة حقيقيين يملكون القدرة على تغيير الواقع. الوزير السابق كميل أبو سليمان يجسّد مثالاً حيّاً لذلك، بما يتمتّع به من خبرة واسعة ومعرفة عميقة في الشأن العام، وقد أظهر قدرة استثنائيّة على مواجهة التحدّيات الصعبة بنزاهة وشجاعة وفهم معمّق للعلاقات الدّولية.