الرئيس نبيه بري.
"نعى رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري المبادرة الأميركية الأخيرة لوقف النار في لبنان، معلناً في حديث لجريدة "الشرق الأوسط" أن رئيس الوزراء الإسرائيلي "رفض خريطة الطريق اللبنانية التي توافقنا عليها مع المبعوث الأميركي إلى لبنان آموس هوكشتاين"، معتبراً أن الحراك السياسي لحل الأزمة "تم ترحيله إلى ما بعد الانتخابات الأميركية" المقررة الثلاثاء المقبل.
"ورفض بري وضع توقعات لمسار الأزمة في ضوء نتائج الانتخابات الأميركية، معتبراً أن الثابت الوحيد هو أن الحراك "تم ترحيله إلى ما بعد هذه الانتخابات"، ومشيراً إلى أن هذا يترك الأمور في لبنان "رهناً بتطورات الميدان"، مبدياً تخوفه من "تحويل لبنان إلى غزة ثانية".
الرئيس بري هو اليوم المفاوض الاول باسم لبنان من اجل التوصل إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله". هذا الدور الرئيسي الذي يلعبه، والذي كان من المفترض أن يقوم به رئيس الجمهورية بالتعاون مع حكومة كاملة الصلاحيات، ليس نتيجة الفراغ الرئاسي فحسب، بل هو أيضا بسبب تفويض "حزب الله" له للقيام بهذا الدور.
من هنا تكتسب تصريحات الرئيس بري الأهمية القصوى، لما لها من تأثير على مصير شعب يُقتل ويهجّر ووطن يُسوّى عمرانه بالأرض. لذلك من مسؤوليتنا كمواطنين معرّضين للموت ولفقدان الوطن، التعاطي مع تصريحات بري بجدية كاملة، والتفاعل معها بالموقف الواضح والصريح.
ألخّص في هذه الملاحظات موقفي كمواطن من تصريحات بري لصحيفة "الشرق الاوسط"، مع التفاتة إلى مواقف سابقة متصلة بمواقفه الحالية. وأخاطبه مباشرة لأنه رئيس مجلس النواب الذي من المفترض دستوريا ان يعبّر عن مواقف المواطنين الذين انتخبوا المجلس، وانا منهم:
١- فاوض باسم لبنان يا دولة الرئيس وليس باسم "حزب الله"، فأنت، في علاقاتك السياسية، وبحسب الدستور، تمثل المجلس النيابي وليس "الثنائي الشيعي". لا بأس إن أخذت مصلحة "حزب الله" في الحسبان، لكن فليكن ذلك في إطار المصلحة الوطنية العليا التي يحددها الدستور اللبناني. أكثر من ذلك، حتى ولو كنت تعتبر نفسك في هذه المفاوضات ممثلا "للثنائي الشيعي" وتالياً للأكثرية الشيعية، لا تهمل مصلحة النازحين لصالح المقاتلين، وانت تتفاوض على شروط وقف إطلاق النار.
من مصلحة اسرائيل أن تفاوضها انت باسم "حزب الله"، فهذا يعطي مصداقية لادعائها أنها تعتدي على "حزب الله" وليس على لبنان، في حين انه من مصلحة لبنان أن تفاوض باسمه وتطرح المصلحة اللبنانية بكل أبعادها، السياسية والديمغرافية والجغرافية والاقتصادية، ولا سيما ان كل هذه الجوانب تتعرض للعدوان ولنتائجه.
٢- ليس من مصلحة لبنان أن تقول يا دولة الرئيس "إن الثابت الوحيد هو أن الحراك السياسي لحل الأزمة تم ترحيله إلى ما بعد الانتخابات الاميركية"، مشيراً إلى أن هذا يترك الأمور في لبنان "رهناً بتطورات الميدان". لقد سبقك الراحل السيد نصرالله وقال في احدى خطبه: "سياستنا في المعركة الحالية أن الميدان هو الذي يتكلّم، ثم نأتي نحن لنشرح فعل الميدان". وها انت ترتكب اليوم الخطأ نفسه، مع انك تبينت بالملموس أن السيد نصرالله كان مخطئا في فرضياته وتقديراته. لذلك أجيبك كما اجبته في حينه في مقال نشرته في "النهار": "الإدعاء أن الميدان يتكلم هو تنصل من المسؤولية، فالبشر وحدهم يتكلمون يا سيد نصرالله، وفي الدول التي تحكمها الدساتير، الكلام وحده هو صاحب السلطان فيما السلاح هو في خدمته، فيتحاور البشر ويصوّتون على القرارات التي تخص مجتمعاتهم وتحدد مسارها ومصيرها. من واجبك الوطني يا سيد نصرالله، ألا تنتظر ما سيقوله لك الميدان الأبكم، بل ان تتكلم مع أبناء شعبك، في إطار المؤسسات الدستورية التي هي وحدها من يقرر فعل الميدان وليس شرحه كما تقول، ومعظم أبناء شعبك قالوا لك بوضوح وصراحة إنهم لا يريدون الحرب، ولا يقبلون أن يكونوا رهائن لما يمكن ان "يقوله" لهم الميدان الابكم."
السياسي المسؤول لا ينتظر لا الانتخابات الأميركية ولا الميدان، بل يبادر الى إيجاد المعالجات الممكنة في إطار المؤسسات الدستورية والقنوات الدبلوماسية. صحيح أن للولايات الأميركية التأثير الأكبر على المفاوضات، وصحيح أيضاً ان المفاوضات تتأثر بنتائج الميدان، لكن كل ذلك لا يمنع على الاقل من معالجة نقاط الضعف الداخلية، وهي كثيرة، والتي تضعف من موقع لبنان في المفاوضات، كما أضعفته في حرب بادر إليها "حزب الله" منفرداً. فهل نذهب إلى المفاوضات كما ذهبنا الى الحرب، منقسمين ومفتقدين للقرار الوطني المغيّب بفعل الفراغات الدستورية؟
٣- لا أفهم عليك عندما تقول، يا دولة الرئيس، الّا انتخابات رئاسية قبل وقف إطلاق النار. قد تكون حجتك في ذلك، أن "حزب الله" اليوم منغمس في القتال وهو في موقع ضعف نسبيا بالمقارنة مع نفوذه السابق، ولن يكون له التأثير الكبير في انتخابات الرئيس، ومن الأفضل بالتالي انتظار وقف إطلاق النار، لعل وضعه يتحسن، ويستعيد بعضاً من نفوذه.
فلنناقش هذه الفرضية على ضوء ما قلته في تصريحك الأخير، وهو انك متخوف "من تحويل لبنان إلى غزة ثانية". الا يعني ذلك أنك تتوقع الّا يكون هناك وقف إطلاق نار في القريب العاجل، وأن حال المقاومة ستتحول من سيء إلى أسوأ، تماما كما حصل في غزة التي لا تريد للبنان أن يصيبه ما اصابها؟ وفي هذا السياق أليس من مصلحة "حزب الله" أن تجري الانتخابات الرئاسية اليوم قبل الغد؟
بغض النظر عن موقف "حزب الله" وعن الاعتبارات التي تنطلق منها يا دولة الرئيس، فإن انتخاب رئيس للجمهورية يصب حكما في مصلحة لبنان، في مسار التفاوض على وقف إطلاق النار، اذ انه يعطي دفعاً دستورياً للمسار ويمده بتوافق وطني مفقود اليوم، بوجه مطامع اسرائيل. واذا كنتَ لا ترى ذلك، فهذا يعني أنك لا تزال للأسف تعطّل الانتخابات، في وقت الحرب كما في وقت السلم. ألم يكن هذا موقفك في الأصل انت و"حزب الله"، والا يحق لنا أن نشكك بموقفك الحالي بسبب ذلك؟
اقنع حليفك أن توافقاً وطنياً، عبر انتخاب رئيس وتأليف حكومة جديدة، هو لصالحه، وقد ينقذه وينقذ البلاد من النكبة التي اوصلنا إليها. توافق وطني ينعكس حتماً على علاقة النازحين الشيعة بالبيئات المضيفة، ويقوّي من أواصر هذا التضامن الوطني الرائع، بدل أن نبقى خائفين من أن يتحول التلاقي إلى نزاع اهلي كما بدأ يروج البعض في الداخل والخارج.
٤- إحدى المشكلات الكبرى التي واجهت التوصل الى وقف إطلاق النار في غزة هي ما سُميَ ب"اليوم التالي"، أي عمليا من سيحكم غزة بعد وقف إطلاق النار، وما هو مصير حماس. ارجو الا تنتقل هذه العدوى القاتلة إلى لبنان، وتصبح المسألة التي ستعرقل التوصل الى وقف لإطلاق النار هي "اليوم التالي" في لبنان، اي ما سيكون عليه مصير "حزب الله" وسلاحه اذا توقفت الحرب، واي نفوذ سيحتفظ به.
لن أناقش هذه الإشكالية في هذا النص، بل سأتركها إلى مقال لاحق. أكتفي بالإشارة تكرارا، أن الاهمية القصوى التي أعطيت لمصير حماس في غزة بعد وقف إطلاق النار، سرّعت بالقضاء على غزة وشعبها، وإذا أردت يا دولة الرئيس الا يحل بنا ما حل بغزة، عليك ألا تخلط بين مصير "حزب الله" ومصير لبنان وشعبه، فتراعي الاول وتفرّط بالثاني.