النهار

خامنئي والسّيستاني: "مرجعية" الموت و"مرجعية" الحياة
خامنئي والسّيستاني: "مرجعية" الموت و"مرجعية" الحياة
السيستاني وخامنئي.
A+   A-

جواد الساعدي*

في العاشر من كانون الثاني (يناير) عام 2020، اغتيل وسط مدينة البصرة في العراق، المراسل التلفزيوني أحمد عبد الصمد والمصوّر صفاء غالي؛ وذلك بعد الانتهاء من تغطيتهما تظاهرة كبيرة في المدينة خرجت تحتج، في إطار انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2019، على سياسات الحكومة وفسادها وتحكّم الميليشيات وسيطرتها على المرافق الاقتصادية العامة وغياب الأمن وانعدام الخدمات، وغير ذلك من الأسباب المتراكمة التي  فجّرت الانتفاضة.
في منتصف شباط (فبراير) من العام التالي، أعلنت حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، التي تشكلت في أيار (مايو) 2020، اعتقال "فرقة الموت" المسؤولة عن مطاردة واغتيال الصحافيين والناشطين في البصرة.
يومذاك، قال الكاظمي؛ وهو القادم من رئاسة جهاز المخابرات الوطني العراقي: "هذه العصابة نشرت الموت في الشوارع وأزهقت الأرواح"، وأشار إلى أنَّ محاكمتها ستكون علنية. لكن السلطات العراقية امتنعت عن كشف أو نشر أي معلومات تخص أفراد المجموعة وجرائمها الكثيرة. 
في وقتٍ لاحق تداولت وسائل إعلامية معلوماتٍ تفيد أن المعتقلين من مجرمي "فرقة الموت" هم أربعة، وأنَّ بقيّة أفرادِها ورؤوسها، تمكن بعضهم من الهرب إلى إيران واستظلوا بحمايتها، وبعضهم الآخر لجأ إلى منطقة "جُرف الصَّخَر" التي أُخليت من سكانها السنّة بعد تحريرها من "داعش" أواخر العام 2014، وتحولت إلى منطقةٍ مغلقة لـ"الحرس الثوري" الإيراني وميليشياته العراقية.
من بين المقبوض عليهم، كان المجرم حمزة العيداني، قاتل أحمد عبد الصمد وصفاء غالي. بعد إجراء التحقيقات الوجاهية، ذكر المركز الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى العراقي في بيان، أنَّ "المجرم اعترف بكامل تفاصيل الجريمة"، وأنَّ "الهدفَ منها زعزعة الأمن والاستقرار، وإشاعة الرعب في نفوس الناس، تحقيقًا لغايات إرهابية".
في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2021، وبعد النطق بحكم الإعدام شنقًا حتى الموت في حقه، خرَّ القاتل العيداني، وهو في قفص الاتهام، ساجدًا "سجدة شكر لله". وعندما سأله القاضي: هل أنت مذنب؟ قال: "لا، أنا عملت وفق فتوى مرشد الثورة الإيرانية، السيد علي الخامنئي، حفظهُ الله وأَدام ظلَّه".
لم يكنِ الإيرانيون في حاجةٍ إلى الاستنكار أو النفي، فخامنئي كان بعد اندلاع انتفاضة تشرين (أكتوبر) قد أوصى عبر منصة "أكس"، "تويتر" آنذاك، "الحريصين على العراق ولبنان بأن يعالجوا أعمال الشّغَب وانعدام الأمن"، واتهم المنتفضين بالعمالة لأميركا واسرائيل وبعض الدول العربية؛ وكان ذلك كافيًا لتصاعد حمّى الجرائم والقتل العشوائي والخطف والحرق والطعن بالسكاكين وتقطيع الأوصال ورميها في مكبّات النفايات، وانفلات الروح "الداعشية" لدى ميليشيات "الولي الفقيه" في كلا البلدين.
لكنْ في المقابل، كان المتظاهرون والمعتصمون في الساحات العراقية ينتظرون بلهفة، ويُصغون كلَّ يومِ جمعة، إلى صوتٍ مختلف، هو صوت المرجع الأعلى في النجف، السيد علي السيستاني، الذي كان يأتيهم على شكل بيانات خاصة بالانتفاضة يُصدرها مكتبه ويتلوها في خطبة الجمعة أحدُ ممثلَيْه في كربلاء.
بلغ عدد البيانات الأسبوعية التي أصدرها مكتب السيد السيستاني ستةَ عشَر بيانًا؛ قاسمها المشترك كان تأكيد حق التظاهر السلمي، وإدانة إراقة الدماء البريئة، والتعاطف مع ذوي "الشهداء الكرام" ومع الجرحى والمصابين، وتأكيد "حرمة الدم العراقي"، والتضامن مع المطالب المشروعة للمتظاهرين السلميين "الأحبة" ودعم "طريقهم المشرِّف"، والدعوة إلى عدم التعدّي على الحريات العامة والخاصة التي كفلها الدستور، وإلى وضْع حدٍّ للذين يهدِّدون ويضربون ويخطفون ويقنصون ويقتلون وهم بمنأى من الملاحقة، والمطالبة بالكشف، أمام الرأي العام، عن العناصر التي أمرت أو باشرت بإطلاق النار على المتظاهرين أو غيرِهم، وعدم التواني في ملاحقتهم واعتقالهم وتقديمهم الى العدالة مهما كانت انتماءاتهم ومواقعهم.
وعلى وجه الخصوص، جاء في بيانه الثاني في 11.10.2019 أن "الحكومة وأجهزتها الأمنية مسؤولة عن الدماء الغزيرة التي أُريقت (...)، سواءٌ من المواطنين الأبرياء أو من العناصر الأمنية المكلَّفة التعامل معها، وليس في وسع الحكومة التنصل من تحمُّل هذه المسؤولية الكبيرة". وطالب بـ"إجراء تحقيقٍ يتّسم بالمصداقية حول كل ما وقع في ساحات التظاهر، وأكد أن "صوت المرجعية سيبقى مع أصوات المظلومين والمحرومين من أبناء هذا الشعب أينما كانوا، بلا تفريقٍ بين انتماءاتهم وطوائفهم وأعراقهم".
وفي بيانه الثالث الذي تُلي في 25.10.2019 قال: "إن تأكيد المرجعية ضرورة أن تكون التظاهرات الاحتجاجية سلمية خالية من العنف، لا ينطلق فقط من اهتمامها بإبعاد الأذى عن ابنائها المتظاهرين والعناصر الأمنية، بل ينطلق أيضاً من حرصها البالغ على مستقبل هذا البلد الذي يعاني من تعقيداتٍ كثيرة يُخشى معها أن ينزلقَ بالعنف والعنف المقابل الى الفوضى والخراب، ويفسحَ لمزيدٍ من التدخل الخارجي، فيصبح ساحةً لتصفية الحسابات بين بعض القوى الدولية والاقليمية".
واعتُبر بيانه السادس في 15.11.2019 مفصليًّا، إذ اندفعت في إثْرهِ أعدادٌ غير مسبوقة من العراقيين إلى ساحات التظاهر، مما أعطى زخْمًا كبيرًا للتظاهرات، فتوسعت لتشمل كل شرائح المجتمع من طلبة المدارس والنقابات المهنية وأبناء مختلف الأديان والطوائف؛ وانضم إليها رجالُ دينٍ مسيحيون وصابئة مندائيون، ورفع المتظاهرون فيها لافتاتٍ كُتب عليها: "لا نخاف، السيد السيستاني معنا".
في هذا البيان أكد السيد علي السيستاني أنَّ "المواطنين لم يخرجوا إلى المظاهرات المطالِبة بالإصلاح، بهذه الصورةِ غيرِ المسبوقة، ولم يستمرّوا عليها طوال هذه المدة، بكل ما تطلّبه ذلك من ثمنٍ فادح وتضحيات جسيمة، إلّا لأنهم لم يجدوا غيرَها طريقًا للخلاص من الفساد". وأضاف محذّرًا: "إذا كان مَن بيدهم السلطة يظنون أن بإمكانهم التهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة فإنهم واهمون". وختمَ بيانَه بالقول: "إنّ معركة الإصلاح التي يخوضها الشعب العراقي الكريم إنما هي معركة وطنية تخصه وحده، والعراقيون هم من يتحملون اعباءَها الثقيلة، ولا يجوز السماح بأنْ يتدخلَ فيها أيُّ طرفٍ خارجي بأيِّ اتجاه".
واستعاد بيانه العاشر في 13.12.2019 الذي سبقته بأيام الذكرى السنوية الثانية للانتصار على "داعش" في 10.12.2017 ما قاله في "خطبة النصر" عن معركة الإصلاح، فـ"هذه المعركة التي تأخرت طويلًا، لا تقلُّ ضراوةً عن معركة الارهاب، إن لم تكن أشدَّ وأقسى؛ والعراقيون الشرفاء الذين استبسلوا في معركة الإرهاب قادرون بعون الله تعالى على خوض غمار هذه المعركة والانتصار فيها أيضًا إن أحسنوا إدارتها".
ليس الغرضُ هنا عرْض المضامين السياسية لبيانات مرجعية النجف ودورها الذي ساهم في ترشيد مطالب المتظاهرين وبلورتها، بل عرْض الخطاب السلمي الحريص على عدم إراقة الدماء وتثبيت شرعية المتظاهرين ومطالبهم المحقة، مقابلَ مرجعية "قُم" التي أنكرت عليهم ذلك ووضَعتهم في قفص العمالة للأجنبي، وأصدرت ما أراق دماءَهم.
إنَّ نظرةً استعادية لكيفية تعامل السلطات الإيرانية مع الاحتجاجات المطلبية التي كانت تندلع في إيران يزيد من تأكيد ذلك، ويُظهر الفَرْقَ بين مرجعيةٍ تُسفك الدماء، ومرجعيةٍ تحرص على حياة المواطن وحقوقه "بلا تفريق"، وتتجلى في مواقفها مقولتي الإمام علي؛ الأولى: "الناسُ صنفان: إما أخٌ لكَ في الدّين، وإما نظيرٌ لكَ في الخَلْق"، والثانية: "لا تُقوِّيَنَّ سُلطانَكَ بسفْكِ دمٍ حرام".

*كاتب عراقي

اقرأ في النهار Premium