زياد الصَّائغ، المدير التَّنفيذي لملتقى التأثير المدني
تقدِّم المعادلة التي تجمع بين "القومية" و"الدين" معضلات متعدِّدة الأبعاد على المستويات القانونيَّة والدستوريَّة والسياسيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، ولعلَّ الأهمّ بين هذه المعضلات تلك التي تظهر على المستويات الفلسفيَّة واللّاهوتيَّة، إذ تنعكس في أزمة انعِدام الأخلاق الحاليَّة التي نواجِهُها في القضاء العامّ. كلّ من القوميَّة والدّين يثيران ردود فعل قوية، وفهم ديناميّتيهما يمكن أن يساعد في تسليط الضوء على الكثير من المشهد الجيو-سياسي المأزوم خصوصًا في الشرق الأوسط. من السهل شيطنة "القوميَّة" على أنها تقسيميَّة وشوفينيَّة بطبيعتها، ومن السهل أيضًا انتقاد "الدّين" باعتباره يعزّز الأصوليَّة أو الإقصاء. ومع ذلك، فإنَّ تفكيك هذه الانتقادات وتعزيز حوار بنّاء بين القوميَّة والدّين يتطلَّب نهجًا دقيقًا، بعيدًا عن التصلُّب الدُّوغماتيّ والجمود الأيديولوجي اللّذين يُحيطان بهذه الموضوعات في كثير من الأحيان.
يمكن للدُّوغماتيّة أن تكون مدمِّرة عندما تتجلَّى في شكلها الإطلاقيّ للحقيقة، ويمكن للأيديولوجيا أن تكون ضارَّة بنفس القدر عندما تتخذ طابعًا استبداديًّا وإقصائيًّا. لا تكمن المشكلة الأساسيّة في القوميّة والدّين بحدّ ذاتهما، بل في الدُّوغماتيَّة والأيديولوجيا اللّتين يمكن أن تصيبهما، لذلك من الضروري استكشاف القيم الحضاريّة التي يمكن أن يقدّمها كل من القوميّة والدّين، مع الاعتراف بأوجه القصور الخاصة بكل منهما. من خلال القيام فقط بذلك يمكننا أن نأمل في إنشاء تفاعل صحي وبنّاء بينهما، تفاعل يميِّز هذه العناصر عن سياسات الهويَّة المدمِّرة، وقد تسبّبت هذه الأخيرة في اضطرابات في كل من المجتمعات الغربيّة والشرقيّة على حدّ سواء.
في هذا الإطار، تتناول هذه المقاربة، بعنوان "الدّين والقوميّة نحو نموذج تحولي: منظور شرق أوسطي – لبناني"، ثلاثة نماذج من الشرق الأوسط التي توضح تقاطع الدّين والقوميَّة. نُشيرُ على وجه التحديد، إلى إسرائيل وإيران وتركيا، والتي كان لإشكاليَّتِها الجيو-سياسيَّة الدور الكبير في تشكيل الكثير من النِّقاشات حول هذه العلاقة. في هذه الدُّول، غالبًا ما تكون القوميَّة والدّين مُتشابِكَين بطرق تطرح مخاطر هائِلة على الحوكمة الرشيدة، والتعايش، والعدالة، والسلام، والتنوّع، والديموقراطيَّة، وحقوق الإنسان، كذلك على الأمن والسَّلام الإقليمي والدّولي. لكن قبل الغَوص في هذا التَّداخُل الجيو-دينوغرافي، لنعُد إلى تحديد مُبسَّط للدّين والقوميَّة.
1. الدّين
لطالما كان الدّين قوة ذات تأثير كبير عبر تاريخ البشريَّة. قوَّة قادِرة على إنتاج الخير العظيم والشرّ العظيم أيضًا. لقد استخدم الدّين لتبرير الغزوات، والحملات، ومحاكم التفتيش، والحروب، لكنّه ألهم أيضًا السّلام والوحدة والتقدّم الاجتماعي. في بعض الحالات، مثل حالة بولندا خلال الحرب الباردة، لعب الدّين دورًا رئيسيًا في توحيد وتحرير شعب مضطهد. تحت راية الدّين، تشكّلت مجتمعات، وازدهرت المؤسسات الاجتِماعيَّة الرَّائِدَة، وتمَّ تقديم المساعدة الإنسانيّة في أوقات الأزمات. في جوهره، يسعى الدّين للإجابة على أسئلة الإنسان الوجوديّة الأعمق وتوفير إطار أخلاقي للحياة. ومع ذلك، عندما يتشابك الدّين مع السِّياسة أو يُستخدم لتبرير السَّعي وراء السُّلطة، قد يفقد جوهره الرّوحي وسلطته الأخلاقيّة. هذا توازن دقيق، حاولت العديد من الدّول والمجتمعات الحفاظ عليه.
2. القوميَّة
تُعالِجُ القوميَّة أيضًا حاجة إنسانيَّة أساسيَّة، وهي الرّغبة في هويَّة ثابتة ومأمونة. يحتاج الناس إلى الانتماء إلى هويَّة، سواء كانت مجتمعًا، أو دينًا، أو أمَّة، أو إطارًا اتفاقيًّا، توفِّر القوميَّة للأفراد إحساسًا بالهويَّة، متجذرًا في التاريخ والثقافة والقيم المشتركة لأمَّة أو مجموعة معيَّنة. هذا الإحساس بالهويَّة يمكن أن يكون تمكينًا، ويساعد في تعزيز الوحدة والتماسك الاجتماعي. يمكن للقوميَّة، مثل الدّين، أن تجمع الناس معًا تحت قضيَّة مشتركة، ولكنَّها تختزِنُ أيضًا القدرة على أنْ تتحوَّل إقصائيَّة وإلغائيَّة.
في هذا السِّياق المعقَّد والحسَّاس، تساعد التعريفات المبسَّطة لكلّ من الدّين والقوميَّة في توضيح كيف يمكن للدُّوغماتيَّة والأيديولوجيا، عندما تتَّحِدان، أن تؤدّيا إلى تداعيات مدمِّرة. يتم في الغالب التضحية بقيم الحريَّة والعدالة والديموقراطيَّة والتَّنوع وسيادة القانون في هذا الاتِّحاد السَّلبي، مما يؤدي إلى حالة من العدمية والعبثيَّة حيث لا يمكن أن تزدهر هذه القيم بتاتًا.
مع ذلك، وبصرف النظر عن التجارب التي يمكن استرجاعها في إيرلندا، وبولندا، والمملكة المتّحدة، وحتّى ألمانيا فيما يتعلق بالعلاقة بين "القوميَّة" و"الدّين"، حيث قد يكون "الدّين" هنا علمانيًا، هناك تحدّي في العلاقة بين إسرائيل واليهوديَّة في معناها القيميّ، وإيران والشيعيَّة في معناها القيميّ، بالإضافة إلى ذلك، واجه الشرق الأوسط محاولة لإعادة تشكّيل العلاقة الهيكليَّة بين الخلافة والأمَّة في تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة (داعش)، حيث واجهنا محاولة لتحقيق توازن مفخّخ لصراع يمتد لألف عام، بالتّوازي مع التّيار القومي المسيحي الذي حاول وضع نفسه في قلب هذه الفوضى من خلال محاولة إنشاء ميليشيات مسيحيّة في سهل نينوى بالعراق، هذا الإنشاء الذي لم يحظ بمباركة الكنيسة. نحتاجُ في هذه المرحلة الدمويَّة مواجهة أسئلة معقَّدة بجرأة وعمق: ماذا تفعل إسرائيل في فلسطين باسم القوميَّة اليهوديَّة؟ ماذا تفعل حماس باسم فلسطين الإسلاميَّة؟ ماذا تفعل إيران القوميَّة الفارسيَّة باسم الشيعيَّة بأذرعها الأيديولوجيَّة المُعَسكَرة في العالم العربي؟ هل يمكن لتركيا الحفاظ على الحد الأدنى من قوميتها مع الإسلام اللّيبرالي؟ هذه أسئلة محوريَّة يجب معالجتها. لعلّ هذه التساؤلات الشائكة تُمثِّل لحظة تأسيسيَّة في إعادة استِنهاض المواطنة والدول الوطنيَّة في مقابل تفخيخ الهويَّات الفرعيَّة، وتأجيج الصِّراعات في ما بينها.
3. الشرق الأوسط: السِّياق المعقَّد
يوفِّر الشرق الأوسط سياقًا فريدًا للتدقيق في العلاقة بين القوميَّة والدّين. تاريخيًا، كانت هذه المنطقة في قلب العديد من الصّراعات الدّينيّة والسّياسيّة الكبرى في العالم، ولا تزال تُمثِّل محورًا للنقاشات العالميَّة حول دور الدّين في الحكم. تقدّم كلّ من إسرائيل وإيران وتركيا نماذج ملتبِسة معقَّدة حول كيفيّة تفاعل الدّين والقوميَّة في سياقات جيو-سياسيَّة مختلفة.
أ. إسرائيل: في إسرائيل، تتشابك العلاقة بين القوميَّة (الصهيونيَّة) والدّين (اليهوديَّة) بشكل عميق. قامت إسرائيل على أشلاء الشّعب الفلسطيني كموطن للشعب اليهودي، وهويّتها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتقاليد الدينيّة اليهوديّة. أدّى هذا إلى توتّرات هائلة دمويَّة، لا سيّما فيما يتعلّق بالشعب الفلسطيني والعالم العربي الأوسع. القوميَّة اليهوديَّة، في سعيها للبقاء والتوسّع الكولونيال الاستيطاني، تتعارض مع تطلّعات المجموعات الدينيَّة والوطنيّة الأخرى في المنطقة، خصوصًا وأنَّها قامت على مقاربة إقصائيَّة للشعب الفلسطيني وحقوقه وفي مقدَّمِها إقامة دولته، كما عودة اللّاجئين.
ب. إيران: في إيران، العلاقة بين الدّين (وتحديداً الإسلام الشيعي) والقومية الفارسيَّة معقّدة أيضًا. الثورة الإيرانيّة عام 1979 حوّلت البلاد إلى جمهوريّة إسلاميّة، مع نظام سياسي يدمج السّلطة الدينيَّة بالحكم الوطني، ويميّز بين مرشد اعلى للجمهوريَّة ورئيس لها. غالبًا ما يبرّر النّظام الإيراني طموحاته الجيو-سياسيَّة بمصطلحات دينيَّة، مستخدمًا الأيديولوجيا الشيعيَّة المُعَسكَرة لتحقيق نفوذه في المنطقة، وقد أدّى هذا إلى صراعات سواء على المستوى الوطني للدول، أو في علاقته مع الغرب.
ج. تركيا: تمثل تركيا نموذجًا أكثر هشاشة، حيث كانت العلاقة بين الدّين والقوميَّة في حالة تغيّر مستمر منذ تأسيس الجمهوريَّة الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك. كانت رؤية أتاتورك تتمثّل في القوميَّة العلمانيَّة، حيث يلعب الدّين دورًا ثانويًا في الحياة العامّة. ومع ذلك، شهدت تركيا في السّنوات الأخيرة عودة للإسلام السّياسي، ممّا يطرح تساؤلات حول مستقبل القوميَّة التركية.
4. الدّين مع القوميَّة، وسياسات الهويَّة
إحدى القضايا الأكثر إلحاحًا في العلاقة بين الدين والقومية اليوم هي صعود سياسات الهوية في الغرب. فعندما تصل سياسات الهوية إلى أقصاها، تتمكن من شيطنة القومية والدين على حد سواء، مما يحولهما إلى قوَّة انقسامية تضعف التماسك الاجتماعي وكرامة الإنسان. وبدلاً من تعزيز شعور مشترك بالهوية المواطنيَّة والخير العام، غالباً ما تعمل سياسات الهوية على تأجيج الانقسامات بين المجموعات المختلفة، مما يؤدي إلى التطرُّف، والإقصاء، ونشوب صراعات. كما يمكن أن تؤدّي سياسات الهويَّة إلى تآكل القيم العالميَّة، مثل العدالة والمساواة والتضامن، من خلال إعطاء الأولويَّة لمصالح مجموعات معيّنة على حساب الخير العام.
5. النموذج اللّبناني: تجربة فريدة
يقدِّمُ لُبنان نموذجاً فريداً في الشرق الأوسط لاستكشاف العلاقة بين القوميَّة والدّين. فمنذ تأسيس دولة لبنان الكبير في عام 1920، كان لبنان منخرطًا في تجربة فلسفيَّة، مفاهيميَّة، سياسيَّة، دستوريَّة، ثقافيَّة واجتماعيَّة تهدف إلى التوفيق بين القوميَّة والدّين. لقد ألزمت التركيبة الدينيَّة المتنوّعة في البلاد، التي تشمل مجتمعات مسيحيَّة، ومسلمة، ودرزيَّة، ويهوديَّة، بما يُحقِّق توازنًا دقيقًا بين التعدّدية الدينيَّة والهويَّة الوطنيَّة الجامِعَة. أحد أبرز المفكّرين في هذا السياق كان كمال يوسف الحاج، وهو الفيلسوف اللّبناني الذي دعا إلى بناء "القومية اللبنانية" التي تدعمها توليفة من العناصر الثقافيَّة المسيحيَّة والإسلاميَّة (النصلاميَّة). رؤيته كانت تعتمد على التّكامل بين القوميَّة والدّين، وليس التنافس أو الصراع. رأى الحاج في لبنان نموذجاً يمكنه أن يُظهر كيف يمكن للتعدديّة الدينيّة والقوميّة أن تتعايش بطرق تثري كلا الجانبين، كما تُثري التُراث الإنساني السّياسي والاجتماعي، والثّقافي، والديني، وحتّى اللَّاهوتي الفقهي . لبنان، إذا سمح له المجتمع الدّولي بالتخلّص من لعنة الجغرافيا السياسيّة، يمكن أن يقدّم نموذجًا حضاريًا للعلاقة البناءة بين "القوميَّة" و"الدّين". لبنان حالة حضاريَّة في مواجهة أحلاف التطرُّف الثيوقراطي الأوتوقراطي، وقد يكون الفاتيكان أكثر من فهِم ذلك، وسعى وما زال لحمايتِه.
6. الدّين والقوميَّة: التحدّيات والفُرص
تتَّسم العلاقة بين القوميَّة والدّين بتحدّيات كبيرة، ولكنّها أيضاً تتيح فرصاً للتّغيير الإيجابي. يمكن تقسيم هذه التحدّيات إلى ثلاث مجالات رئيسيَّة:
أ. الدّين كضامن أخلاقي للنّظام العام: عندما يرتبط الدّين بالمبادئ الأخلاقيَّة، فإنه يمكن أن يشكِّل ديناميَّة قوية لتعزيز النظام العام والمساءلة. ومع ذلك، عندما يتشابك الدّين مع الأنظمة السّياسيّة بغرض الحماية أو النفوذ، فإنه قد يفقد سلطته الأخلاقيَّة. التحدّي هنا هو فكّ الارتباط بين المرجعيَّات الدينيَّة والسُّلطة السياسيَّة، واستعادة الدّين كضامن أخلاقي للنظام العام.
ب. تعزيز السّياسات العامّة والحكم الأخلاقي: المؤسَّسات الدينيَّة والوطنيَّة لديها القدرة على المساهمة في تطوير سياسات عامَّة تعكس المبادئ الأخلاقيَّة. ومع ذلك، في العديد من الحالات، أصبحت المؤسَّسات الدينيَّة والدّوليّة مرتبطة بشكل وثيق بالسُّلطات السياسيّة، ممّا أدّى إلى فقدان صوتها الأخلاقي. التحدّي هو ضمان أن تؤدّي المؤسسات الدينيَّة والدَّولتيَّة دورًا بناءً في بناء السّياسات العامّة، دون أن تصبح أداة للتأثير في السياسة أو الاستِزلام السّياسي.
ج. الحكم المُستدام: تأثّر كُلٌّ من القوميَّة والدّين بعيوب هيكليَّة أعاق قدرتهما على تعزيز الحكم المستدام والحوكمة الرَّشيدة. أدَّت المبالغة في الخطاب الديني والقومي إلى التركيز على الإصلاحات الظرفيَّة بدلاً من الحلول المستدامة طويلة الأجل. التحدّي، هو تجاوز الحلول المؤقّتة وتطوير نموذج للحكم يقوم على الخير العام.
7. الآفاق المستقبلية
لقد شهد الشرق الأوسط بشكل مُباشر القُدرة التدميريَّة للعلاقة بين القوميَّة والدَين، ومن هذه المنطقة يمكن استخلاص الدُّروس الجيو-سياسيَّة، والدّينيَّة، والأخلاقيَّة الأهم. إنهاء التطرف في كل من القوميَّة والدّين أمر ضروري لإصلاح العلاقة بينهما. من خلال معالجة التحديَّات الهيكليَّة الموضَّحة أعلاه، والترويج لرؤية مُعتَدِلة للقوميَّة والدّين تكون شاملة وأخلاقيَّة وتركِّز على الخير العام، يمكن خلق مجتمع أكثر عدلاً وسلاماً. في النِّهاية، يعتمد مستقبل العلاقة بين القومية والدين على قدرتنا على تجاوز الدُّوغماتيَّة والإيديولوجيا، وتعزيز حوار يقوم على القيم المشتركة والمصالح المشتركة والثقة المتبادلة بين المكوّنات المتناغمة والمتمايزة على حدِّ سواء، بما يُعزِّز كرامة الإنسان، والسَّلام والأمن الإقليمي والدّولي.