حسين عبدالحسين (*)
يُدرّس المذهب الشيعي الذي نشأنا عليه الواقعية والعملانية. وكان كبارنا يردّدون على مسامعنا الآية الكريمة "ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة"، ويضيفون إليها قول الإمام علي بن أبي طالب "إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون". وسمح قادة المذهب، عبر تاريخه، بممارسة التقية درءاً للمخاطر على النفس، أي أن المسلم الشيعي إن شعر أن التعريف عن هويته أو ممارسة عباداته يؤديان إلى أذيته وأهله، فعليه التستر بالمألوف (وهذا مبدأ متداول كذلك لدى الموحّدين الدروز والنصيريين العلويين). طبعاً لا تعني التقية الكذب، أي أنه عندما لا تكون حياة الشيعي في خطر لا يجوز الكذب أو التكاذب. المذهب الشيعي شدّد على قيمة الحياة وقدسيتها.
وعلى هذا القياس، نرى حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران تتفادى المواجهات العسكرية المباشرة منذ تجرّع مؤسسها الراحل روح الله الخميني "كأس السم" لوقف حرب ضدّ العراقي صدام حسين كانت انقلبت لمصلحة العراقيين ضدّ الإيرانيين. لم يدع الخميني للصمود في سبيل الصمود، بل ضرب أخماسه في أسداسه، وخضع للقرارات الدولية التي كان سبق له أن رفضها، وتخلّى عن وعده بالإطاحة بنظام صدام حسين، الذي كان الخميني يكن له عداءً شخصياً منذ زمن نفي الخميني من قم إلى النجف، والتنكيل البعثي بحق رجال الدين الذين لاحت في صفوفهم بوادر التسييس وتبنّي مبدأ أن الإسلام ليس ديناً فحسب، بل حكومة وسياسة كذلك، وهي المدرسة المعروفة اليوم بالإسلام السياسي.
ولم تحد إيران الإسلامية عن واقعية الخميني منذ رحيله، ولا هي انخرطت في حرب مباشرة مع أي من أعدائها، بل استعاضت عن ذلك بتحريض شيعة العالم العربي لتبنّي عقيدة الموت المطلق من دون حساب. حتى الفترة الوجيزة والاستثنائية التي انخرطت فيها طهران في مواجهة عسكرية مباشرة، مثل في رميها صواريخ على إسرائيل، تراجعت بعدها عندما أدركت أن المقاتلات الإسرائيلية حلّقت في سماء إيران لساعات من دون قدرة الإيرانيين على وقفها أو منعها أو التصدّي لها. أدركت إيران أنها أخطأت حينما صدّقت دعايتها عن صواريخها والخرضة التي تسمّيها ترسانتها، وراحت تردّد أنها لن تقع في "فخ الحرب ضدّ إسرائيل".
ولم يمض أسبوع على انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، حتى مضت إيران في المزيد من التراجع عن عنادها وتحدّيها للمجتمع الدولي، ومدّت السجاد الأحمر للمفتشين الدوليين إلى منشآتها النووية المحصنة.
وقبل إيران، سبق لحليفها السوري بشّار الأسد أن أدرك مدى غضب الإسرائيليين، إذ هو حاول سرّاً تمرير أسلحة إلى "حزب الله" في لبنان مع بداية الحرب، فما كان من المقاتلات الإسرائيلية إلّا أن دمّرت الشحنات مع ضربات تحذيرية للأسد، امتنع بعدها عن المشاركة في "وحدة الساحات"، واكتفى بالتهليل والخطابة، فيما تولّى الروس التباحث في إمكانية إعادة تأهيل الأسد واستعادته الأراضي التي غنمتها الميليشيات الموالية لإيران من معارضيه.
إذن، تسعى كل من إيران الإسلامية والأسد إلى مصالحهما أولاً، ويقتدي كل منهما بتعاليم المذهبين الشيعي والنصيري، أن الليونة والتراجع مطلوبان من أجل البقاء. وحده "حزب الله" في لبنان اختار الفناء على البقاء والعناد على الواقعية، منغمساً في حرب أخطأ في كل حساباته فيها، على غرار ما سبقته إلى فعله حركة "حماس" الفلسطينية.
لم يكن بين "حزب الله" و"الإسرائيليين" قواعد لعبة منذ اليوم الأول لإعلان الحزب معركة الإسناد والإشغال، بل إن إسرائيل كانت منشغلة عنه في غزة، وبعدما طربقت قطاع غزة على رؤوس ساكنيه، اقتلعت "حزب الله" اللبناني وحولته من جيش إقليمي إلى مجموعات "إضرب واهرب" محلية لبنانية.
أما في خطابه الأخير، الذي تمسّك فيه زعيم الحزب الراحل حسن نصرالله بحربه، رافضاً الهدنة بلا شروط (كان شرط وقفه الحرب وقفها في غزة كذلك)، وتوجّه إلى الإسرائيليين بالقول "لا تحلموا" بالعودة إلى الشمال من دون اتفاقية سياسية، فتأكّد اليوم أنه أخطأ الحساب أيّما خطأ، خطأ أدّى بالراحل إلى رمي نفسه وطائفته وبلده إلى التهلكة في سبيل المكابرة والعناد.
المطلوب في لبنان الجريح اليوم واقعية مشابهة لواقعية زعيمي إيران وسوريا، علي خامنئي والأسد. المشكلة أن زعماء لبنان إما يفهمون الواقع ويجبنون عن التعامل معه، أو لا يفهمونه، فيعيشون في خيالهم، ويبنون حساباتهم الخاطئة على هذا الخيال البائس، الذي يتمّ إنتاجه في المقاهي ولقاءات "استقبل ودّع".
ولكن، لمن يرغب من اللبنانيين وزعمائهم، فالواقع هو التالي:
تعتقد إسرائيل أنها قضت على "حزب الله"، ولكنها إن أوقفت حربها، يمكن للحزب المذكور إعادة تشكيل وتسليح نفسه. ولأن إسرائيل لا ترغب في خوض حرب كلّفتها من ميزانيتها قرابة 30 مليار دولار وحوالي 600 قتيل في صفوف جيشها، فهي تبحث عمّن يمكنه منع عودة "حزب الله". المرشحون لهذا الدور هم من الداخل، أي "شركاء لبنانيون" في مصلحتهم استعادة السيادة اللبنانية، فتتحول الهدنة بين لبنان وإسرائيل إلى هدنة بين دولتين، لا بين حكومة إسرائيل وحكومات وصية على لبنان لا يهمّها انهيار الهدنة لابتزاز إسرائيل وأميركا بين الفينة والأخرى. وللاتفاق بين لبنان وإسرائيل سوابق.
في 1996، أوقفت إسرائيل الحرب باتفاقية نيسان (أبريل)، التي قامت إثرها لجنة ارتباط كان في عضويتها لبنان وإسرائيل وأميركا وسوريا، التي كانت وصية على لبنان. هذه المرة، طلبت إسرائيل لجنة ثلاثية بين جيوش لبنان وأميركا وإسرائيل، تفرض هذه اللجنة تنفيذ القرار 1701، خصوصاً لناحية منع إعادة تسليح "حزب الله" نفسه أو صناعته سلاحاً محلياً.
ومن يعرف إسرائيل، يعرف أنها بقدراتها الاستخباراتية الهائلة قادرة على تحديد موقع كل رصاصة تتحرك في لبنان وسوريا، وأن كل ما تطلبه هو أن تقوم قوة عسكرية، غير جيشها، باعتراض ومصادرة أي سلاح من هذا النوع. أما إن لم يتحرك الجيش اللبناني (مثلما لم يتحرك الأسد لوقف شحنات السلاح الإيرانية التي تمر في أراضيه)، تتحرك القوة الجوية لتدمير الشحنات في لبنان، كما تفعل في سوريا. لهذا السبب، طلبت إسرائيل قوننة ضرباتها الجوية في حال تقاعس الجيش اللبناني عن حصر السلاح بين أيديه، وهذا هو الترتيب المعتمد اليوم في سوريا مع الأسد.
لماذا لجأت إسرائيل إلى هذا التدبير في سوريا من دون لبنان في السنوات الماضية؟ لأنها لم تكن تخشى ردود فعل ضدها من سوريا، ولكنها كانت تخشى "حزب الله" وصواريخه. الآن وقد قضت على هذا التهديد، ستمارس إسرائيل سياسة تقفي وتدمير السلاح الإيراني، مع أو من دون موافقة اللبنانيين.
أما إيران، فعلى عكس ما يظن بعض اللبنانيين، لا صفقة بينها وبين إسرائيل أو أميركا، ولا ضحّت طهران بـ "حزب الله"، بل هي خسرته. ستحاول إيران تعويض خسائرها ببعض الألاعيب الديبلوماسية، لكن عملية تغيير النظام الإيراني بدأت، وهي ستستغرق سنوات، وستكون معقّدة، والحري ببعض اللبنانيين الآخرين وقف بناء برامجهم السياسية على أساس أن ترامب سيسحق النظام الإيراني فوراً.
لا يوجد انفراج واضح مع طهران ولا ضربة قاصمة. القادم هو سنوات من المواجهة الاقتصادية والاستخباراتية، سينتقل أثناءها ثقل الميليشيات الإيرانية من لبنان وسوريا إلى العراق، وما على اللبنانيين إلّا تحييد أنفسهم بالاتفاق مع إسرائيل، على غرار ما يفعل الأسد.
كلّما فهم اللبنانيون الواقع، كلّما ساهم ذلك في قيامهم بالحسابات الصحيحة لإنقاذ أنفسهم وبلادهم. المطلوب تشكيل إجماع سياسي لبناني يسمح للجيش اللبناني بالانخراط في اتفاقية مع القيادة الوسطى والجيش الإسرائيلي، وهو ما ينهي الحرب في لبنان، ويحيده عن الصراع الإقليمي. أما انتخاب رئيس وتشكيل حكومة والإصلاح وإعادة الإعمار، فيمكن للبنانيين مواصلة مماحكاتهم المملة وفشلهم في حكم أنفسهم أو تقرير مصيرهم، والأفضل عدم ربط أي منها بالصراع الإقليمي الجاري في المنطقة.
* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن