الأب صلاح أبو جوده اليسوعيّ
"وكانت الحيّةُ أحيَل جميع حيوانات الحقول التي صنعها الرّبُّ الإِله" (سفر التكوين 3: 1)
إضافة إلى القدرة على اجتذاب انتباه القارئ وإثارة فضوله ودهشته، يمتاز استخدام الحيوانات في الروايات أيضاً بقابليّته على مضاعفة تأثير نقد الآليّات الاجتماعيّة والسياسيّة واستمرار فعاليّة هذا التأثير لفترة زمنيّة طويلة، فضلاً عن أنّه أسلوب يتجاوز السياق التاريخي المعاصر للمؤلِّف ليكتسب بُعداً شمولياً يتجاوز الزمان والمكان، ويساهم في الكشف عن تعقيدات الواقع الإنساني.
في رواية "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل، يُجسّد نابوليون، أحد الخنازير الثلاثة الحاكمة إلى جانب سنوبول وسكويلر، شخصيّة ماكيافيليّة توقظ في مخيّلتنا صورة الحيّة المغوية التي يذكرها سفر التكوين. فكما كانت الحيّة "أحيل جميع حيوانات الحقول"، يُتقن هذا الخنزير فنّ التلاعب والغش والخداع. وترتكز طريقته على استخدام الدعاية استخداماً مُتقناً، وإثارة الخوف في وسط الحيوانات، واستغلال ثقتها بغية ترسيخ سلطته بطريقة منهجيّة تدريجيّة.
من خلال هذه الرواية الرمزيّة، يُقدِّم أورويل مقارنة ساخرة مع نتائج الثورة البلشفيّة، ويوضح كيف يمكن الطموح الشخصيّ أن يُفسد الـمُثل الثوريّة. وكما قادتِ الحيّة البشريّة إلى السقوط من جنّة عدن، يقود نابوليون الحيوانات ببراعة بعيداً عن رؤيتهم الطوباويّة الأوليّة للمساواة. ومن خلال مؤامراته، يحوّل المزرعة إلى نظام استبدادي تسوده الهيمنة والمحسوبيّة والزبائنيّة والتبعيّة والخضوع والفساد. ويتيح هذا التشبيه لأورويل أن يُحذّر من المخاطر التي تتربّص بكل حركة ثوريّة أو حركة تغيير أو إصلاح. ذلك أن الطموح المفرط الذي يحتجب خلف خطاب مخادع وتضليلي، يمكن أن يشوّه أسمى المبادئ. فالقادة الثوريّون أو المصلحون يصبحون بالضبط ما كانوا يحاربونه في السابق. وفي هذا تكمن المأساة: فساد الأفضل أسوأ فساد.
يُجسّد الخنزير نابوليون أشدّ الانحرافات مأسويّة وخطورة: فالقائد يتحوّل إلى ديماغوجي مغتصب السلطة، والمصلح يصبح مشوِّهاً، والمنادي بالديموقراطيّة إلى طاغية، والمدافع عن حقوق الإنسان إلى مدنّس لتلك الحقوق، والمجاهد في وجه الفساد إلى فاسدٍ ومُفسد، والمربي إلى هادم التربية.
وماذا عن باقي الحيوانات؟ تتّسم مواقفها تجاه نابوليون بأشكال مختلفة من الخضوع للسلطة والتواطؤ معها. فالخراف المطيعة والساذجة، تتبع بطريقة عمياء شعارات نابوليون المبسّطة والسهلة؛ فهذه الفئة تخضع للسلطة خضوعًا كاملاً وغير عقلاني. أمّا فئة العمّال المخلصين، مثل الحصان مالابار، فتُظهر ولاءً كاملاً يدلّ على قناعتها الـمُضلِّلة بأنّ نابوليون يخدم فعلاً الخير العامّ؛ إنّها فئة عماها تعلّقها الأعمى بشخص القائد عن رؤية التجاوزات والاستغلالات. غير أنّ بعض الحيوانات، مثل الحمار بنجامين، تُدرك عمليّة التلاعب، ولكنّها تختبر عجزها عن تغيير الأوضاع، فتبقى هامدة، مستسلمة للأمر الواقع. وهنالك، أخيراً، فئة الحيوانات الحليفة الانتهازيّة أو الوصوليّة، مثل باقي الخنازير التي تدعم نابوليون لمصلحتها الشخصيّة، فتستفيد من امتيازاتها داخل النظام القائم. على أن هذه المواقف المختلفة تبيّن كيف يمكن السلطة أن تستغلّ الطاعة والولاء والعجز والانتهازيّة لترسيخ سلطتها.
إنّ إلقاء نظرة سريعة على التلاعب الذي يمارسه نابوليون تسمح بإبراز الطرق الملائمة لمواجهته. بدايةً، يستغلّ نابوليون جهل الحيوانات الأخرى لتوطيد سلطته، ما يُظهر أهميّة التربيّة وخصوصاً التفكير النقدي. يمكن المواطنين المتعلّمين والمطّلعين على الأوضاع في المجتمع أن يتعرّفوا إلى طرق التلاعب ويحاسبوا المسؤولين. لذا، يُعدّ تعليم المهارات التحليليّة وتعزيز الفضول الفكري والشعور بالمسؤوليّة أساسياً في مكافحة الدعاية التضليليّة التي يلجأ إليها القادة المنحرفون.
فضلاً عن ذلك، يمارس نابوليون الحكم من دون رقابة، ويغيّر قواعد الحكم ويعيد النظر في أهداف الثورة ومبادئها ومساراتها كما يحلو له. وإزاء هذا الواقع، تبرز أهميّة تعزيز البُنى التي تضمن الشفافيّة في ممارسة الحكم، ومراقبة عمليّات اتّخاذ القرارات وسنّ القوانين، والتدقيق في الشؤون الإداريّة كافّة، بحيث يُضمن العمل وفقًا للقوانين، ويُحافظ على القيم العامّة. كما وأنّ تلاعبات نابوليون، ولا سيّما تعديله وصايا الثورة، يُظهر سهولة تحريف المبادئ. لذا، من الضروري حماية المبادئ الأساسيّة والتذكير بها بانتظام، بحيث تتحوّل إلى قناعات راسخة في الذاكرة الجماعيّة.
ويكمن نجاح نابوليون أيضاً في موقف الحيوانات السلبي، إذا تبقى هذه خائفة وعائشة على هامش الحياة العامّة. لذا، من خلال تعزيز التضامن والتشجيع على العمل الجماعي، يمكن الأفراد مقاومة السلطويّة بطريقة أشدّ فعاليّة. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تضطلع في المجتمع بدور فعّال في الدفاع عن الحقوق الفرديّة والجماعيّة والخير العام الحركاتُ الشعبيّة، والنقابات، والمنظمات غير الحكومية، والجمعيات المدنية؛ كما يمكن هذه الكيانات المختلفة أن تتجنّب حصر السلطة بشخص القائد من خلال الحرص على الفصل بين السلطات.
ومن ثمّ، يخنق نظام نابوليون القمعي أي معارضة، ما يُثني الحيوانات عن فضح المظالم. لذا، يجب أن يوفّر المجتمع حماية للناشطين في فضح الفساد والظلم، وتعزيز الوسائل المختلفة التي تُساهم في التعبير عن الشكاوى بغية كشف تجاوزات الحكّام وسوء استخدامهم السلطة.
وأخيراً، يسمح خمول الحيوانات لنابوليون بالمحافظة على سلطته. لذا، يُعدّ تشجيع المشاركة المدنية في الشؤون العامة، وإبراز تأثير الأعمال الفردية، من الوسائل الفعالة لمكافحة موقف الهمود هذا الذي يمكن أن يتحول بسرعة إلى مبالاة تامة، ويُسهِّل بالتالي الانحراف نحو عبادة شخص القائد. وفي الواقع، فإن طريقة الخنزير سكويلر في الترويج لنابوليون، تهدف إلى نشر ثقافة عبادة القائد ومنع أي نقد يطاله. وعليه، فإن تأصيل الثقافة التي تدعو إلى المشاركة في الشؤون العامّة يجب أن يشمل أيضاً تفضيل القيم والمبادئ والقوانين على الشخصيات.
وباختصار، يذكّرنا دور نابوليون في رواية جورج أورويل بأن مكافحة السلطوية والتلاعب تتطلّب التزاماً مستمراً من قبل المجتمع المدني، وتعليماً نقدياً مستنيراً، ويقظة جماعية. وفي هذا السياق، يكتسب كل عمل فردي، وكل تعبيرٍ عن رأي فردي، وكلّ موقفٍ شخصي، أهميّة كبيرة جداً في السعي لإرساء أسس مجتمع عادل تسوده المساواة وحكم القانون، ويتميّز بيقظة جماعية على ممارسة السلطة.
أستاذ في جامعة القديس يوسف