مالِك مجموعة "الراي" الإعلامية الكويتية
لبنان أكثر بلدٍ يليق به الاستقلال، فهو طائرٌ جميلٌ غَرَّدَ خارجَ السرب يوم كان السربُ بلونٍ واحدٍ ووجهةٍ واحدةٍ وإطارٍ واحد. التعدديةُ والحرياتُ والتَحَضُّرُ والخدماتُ المميزةُ والطبيعةُ والسياحةُ، والأهمّ من ذلك كلّه الثروة الحقيقية الممثَّلة في الفرد اللبناني نفسه عابِر الثقافات...عاشِق الحداثة.
هذا في العاطفة ...
في العقل، ربما كان لبنان أكثر بلدٍ فرّط في مضامين استقلاله، وأتذكّر هنا عبارةً أَعْجَبَتْني لسياسيّ لبناني في غمرة الاحتفال بذكرى الاستقلال حيث قال: "يحتفل اللبناني بعيدِ الاستقلال كمَن يصفّق في عرس حبيبته". فهذا الوصفُ ينطبق على بعض اللبنانيين وخصوصاً مَن امتهن التبعيةَ للوصول إلى منصبه، مُتَرافِقاً مع أطنان من التنظير السياسي لتبرير العلاقة مع هذا الطرف أو ذاك في الخارج بحجةِ "لعنة الجغرافيا" ووقائع التاريخ وواقع الحدود.
بصراحةٍ، كخليجيين، كان لبنان ما بعد الاستقلال نموذجاً يَستقطب فينا كلّ شيء. المستشفى والمصرف والجامعة والخدمات العامة. لم يكن امتلاكُ العقارات في لبنان تَرَفاً سياحياً كما يَعتقد البعض، بل هو جزءٌ من إدمانِ تلك المرحلة التي كَتَبَ عنها قادةٌ خليجيون أنهم أرادوا تعميمَها في دولهم الناشئة وهم يتحدّون الصحاري ويَزرعون العمران. وعندما قلنا في خمسينيات وستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي إن لبنان بلدنا الثاني فلم يكن في هذا القول ذرّة مبالغة.
ولنكن واقعيين، هناك أمورٌ دمّرتْ الاستقلالَ وأَفْرَغَتْهُ حتى من حروفه، وهناك جِراحاتٌ صعبةٌ يجب أن تحصل كي يقال إن دربَ العودة الى الاستقلال مفروشٌ بالإمكانية.
اتفاقُ القاهرة الذي سمح لمنظمة التحرير الفلسطينية عملياً بتكوين دولةٍ داخل الدولة، كان أولَّ مسمارٍ دُقَّ في نعش الاستقلال، وانتقلتْ "فتح لاند" من مناطق الجنوب الى المخيمات في بيروت والبقاع والشمال ... تَرافَقَ ذلك مع غليانٍ داخلي سياسي واجتماعي، فأنصارُ القومية واليسار رأوا في مساراتِ القضية الفلسطينية إضعافاً لها، وساهمتْ كلُّ الفصائل الفلسطينية في تغذيةِ وتأجيجِ الشارع ومؤسساته السياسية، ثم برزتْ مسألةُ أحزمة الفقر والمناطق المحرومة ... وأيضاً تم توجيهُها لخدمة مشروع الحرب الأهلية، مع أن الحرمانَ عملياً في لبنان يشمل كل المناطق والطوائف.
كان الاستقلالُ اللبناني يخسر بالنقاطِ الصعبةِ والقاسيةِ، حربٌ بين يمينٍ ويسار انتقلتْ إلى حربٍ بين الميليشيات الطائفية، ثم اجتاحتْ إسرائيل لبنان أكثر من مرّة، ثم كان الجيشُ السوري القوةَ الآمِرة ... وقد نعتبر إحدى أكبر ضربات الاستقلال التي أَسْقَطَتْه في حلباتِ البقاء مراراً انتقال أمراء الميليشيات من الشارع إلى السلطة برعايةٍ إقليميةٍ، فانفتح البلدُ على كل أبواب اللا استقلال وصار الحُكْمُ اللبناني رهينَ أمريْن: تَقاسُم المغانم على حساب المؤسسات إن اتّفق "الامراء" مع "ضريبةٍ" يجب أن تُدفع للخارج، والتقاتُل وشلّ البلد إن اختلفوا... وأيضاً بتوجيهٍ من الخارج. وأهلُ لبنان يعرفون ما أقوله بل يعيشونه.
عن الجِراحات الصعبة الموجبة لعودة الاستقلال:
البدءُ بفرضِ نظريةِ أن لبنان كفاه ما قدّمه للقضية الفلسطينية نيابةً عن كل العرب بل عن الفلسطينيين أنفسهم أحياناً، والعودة المبدئية إلى اتفاقية الهدنة 1949 كمقدمةٍ لترسيم الحدود البرية وفق آليةٍ دوليةٍ شبيهةٍ بما حصل مع البحرية ... ولو اقتضى الأمرُ سنوات، فالحربُ الديبلوماسية القانونية بعد كل ما جرى أفْعل من العسكرية.
اعتمادُ سياسة الحياد لا عن القضايا المصيرية بل مقاربةُ هذه القضايا بالسياسة والديبلوماسية لأنها أفْعل وأكثر قيمة. وهنا سأقول إن كلمةَ الرئيس اللبناني المسيحي سليمان فرنجية التي ألقاها باسم العرب في الأمم المتحدة عام 1974 دفاعاً عن قضية فلسطين كان وَقْعُها أقوى من ألف صاروخِ كاتيوشا يَضرب إسرائيل.
إعادةُ تكوينِ طبقةٍ سياسيةٍ تتفرّغ لـ "التطور" وتخفّف من "التورّط"... تكمل إرثَ رجالِ ما بعد الاستقلال وخصوصاً فؤاد شهاب، وتركّز على التنمية والتطور ومستقبل الجيل الشاب. تبتعد عن التكوينات الطائفية ولو بِحُكْمِ القانون وتركّز على برامج اجتماعية اقتصادية. وهنا لا بد من "مُحاسَباتٍ" للمسؤولين عن الانهيارِ المالي وإفقادِ الثقة الاستثمارية بلبنان و"مُراجَعاتٍ" فورية للسياسة النقدية.
عودةُ المؤسسات الغائبة الى لبنان، وأهمّها القضائية وتنقيتها وتطهيرها من التشويه المتعمَّد بالتقاسُم الطائفي.
الالتزامُ ببرنامجٍ سيادي يَحصر السلاحَ في يد الشرعية اللبنانية بما في ذلك سلاح المخيمات الفلسطينية ويعيد الحيويةَ لعلاقاتِ لبنان العربية والدولية.
الجراحاتُ صعبةٌ، وربما كانت المعالجاتُ شبه مستحيلة ... وسامِحوني إن قلتُ إن العودةَ إلى الاستقلال مرهونةٌ بما إذا كان اللبنانيون فعلاً يريدونه.