النهار

في معنى الهزيمة
غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت.
A+   A-

بالاستعارة من معلمنا الراحل، بروفسور التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت قسطنطين زريق، صاحب كتاب "في معنى النكبة"، وهو الاسم الذي أطلقه على فشل سبعة جيوش عربية، حسب قوله، في القضاء على دولة اليهود إسرائيل. اليوم، لا بد لجيلنا من العودة إلى الحقيقة والواقع، ومحاولة وصف الخسائر الفلسطينية واللبنانية أمام إسرائيل كما هي، لا كما يتصورها الخيال الشعبي الساذج والديني الأسطوري، على أنها انتصارات إلهية محققة.

في زمن زريق، كان العرب أكثر صدقاً مع أنفسهم نسبياً، فهو لم يحاول ليّ الحقائق ليقلب النكبة انتصاراً، بل حاول معالجة أسباب الهزيمة العربية العسكرية، وتحديد مكامن قوة إسرائيل لدى المجتمع الدولي، ثم الإضاءة على نقاط الضعف العربية، ليخلص إلى معادلة حسابية بسيطة: حتى ينتصر العرب على إسرائيل، لا بد من القيام بتعديلات، مجتمعية أولاً، وسياسية واقتصادية ثانياً. 

لكن لم يخطر في بال زريق أن الصراعات عبر التاريخ فيها ربح وخسارة، وأن النصر العربي ليس حتمياً، حتى لو هو قدم بعض الأفكار التي اعتبرها كفيلة بقلب النكبة انتصاراً.

وما لم يفطن إليه زريق أيضاً هو أن في الواقع العربي مشاكل بنيوية غير قابلة للتعديل في زمن منظور يجعل من الانتصار على إسرائيل وتدميرها إمكانية سانحة في جيله، أو حتى في جيلنا أو جيل من سيلينا. لا إسرائيل تتقهقر اليوم، ولا عزيمتها تستكين، ولا الرأي العام الدولي ينقلب ضدها، ولا العرب — بالنظر إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا والأراضي الفلسطينية — في طور نهضة أو صعود تسمح لهم باستعادة القطر الفلسطيني (زريق كان من القوميين العرب) ودمجه في اتحاد الدول العربية لتشكيل أمة عظمى تنافس باقي الأمم. 

ما قام به زريق، ودأبت عليه النخبة العربية منذ حينه، هو تقديمهم لما يتخيّلونه حلاً مثالياً لتحسين شؤون العرب، وهو حل خيالي لا يمت إلى الواقع بصلة، ما يعني أن جودة الأفكار وحدها لا تكفي. المطلوب هو تقديم حلول ممكنة، بالنظر لما بين أيدينا من وقائع وإمكانيات، أو على قول المثال الأميركي: عندما تعطيك الحياة ليمونتين… تصنع منهما ليموناضة. 

أميركا تتصدر القوة في العالم منذ أكثر من قرن. بين الفينة والأخرى، يخرج الأميركيون بحلول يعتقدونها ناجعة، مثلاً لاستبدال الشيوعية بالرأسمالية أو للقضاء على الإرهاب ونشر الديموقراطية.

فشلت كل من هاتين الفكرتين اللتين تبناهما جيلان متتاليان من المفكرين الأميركيين، فتراجعت أميركا عنهما بلا خجل، وتعلمت من تجربتها، وعادت الى سياستها الدولية، الموغلة في الواقع، والبعيدة كل البعد عن المبادئ والأفكار الوردية.

في دنيا العرب والمسلمين، لم تترك النخبة يوماً فكرتين تتمحوران حول ضرورة نيل الفلسطينيين حقوقهم في تقرير المصير وإقامة دولة سيدة ومستقلة. الفكرة الأولى، من جيل زريق، هي القضاء على إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية على كامل التراب، من النهر الى البحر. الثانية هي اقتسام الأرض مع الإسرائيليين في دولتين، واحدة عربية صرفة والثانية مختلطة بين العرب واليهود. 

جرّت الفكرتان على العرب الويلات، لكنهم لم يتعلموا من التجارب، والسؤال هنا: ما هو الهدف؟ هل هو رفاه الفلسطينيين بغض النظر عن الدولة الفلسطينية؟ أو الهدف هو دولة فلسطينية بغض النظر عن شقاء الفلسطينيين؟ 

وقياساً على التجربة الأوروبية، التي استلهم منها زريق وجيله نموذج الدولة القومية، يمكن الإشارة إلى انهيار عدد من الحركات الأوروبية والأميركية القومية الانفصالية منذ حينه.

في أوروبا، مثلاً، صوّت الكتالان في إسبانيا، والاسكتلنديون في المملكة المتحدة ضد استفتاءات الانفصال وإقامة دول ذات سيادة، وتمسكوا بالحكم الذاتي، إذ لم ترَ هذه الشعوب الأوروبية، التي تنعم بأمن، ومستوى معيشة مرتفع، وحريات فردية وعامة، ضرورة للاستقلال.

ومثلما في كاتالونيا واسكتلندا، كذلك في كيبيك الكندية وبورتوريكو الأميركية: تلاشت مشاعر القومية والانفصال، وآثر الكيبيكواز والبورتوريكييون العيش في ظل حكم ذاتي وفي كنف اقتصادين هما بين أكبر سبعة في العالم.

اذن، ما هي أولوية الشعوب العربية؟ أمن ومستوى حياة مرتفع؟ أم كرامة وطنية وعزّة وشموخ على طراز صدام حسين ومعمر القذافي، أو على طراز الإسلاميَّين الراحلَين حسن نصرالله ويحيى السنوار؟ 

السؤال الثاني هو، في حال أصرّ العرب والمسلمون على السيادة الوطنية، وإن فوق الركام مثل في لبنان وسوريا والسودان، هل هناك جدول زمني مقبول لتحقيق السيادة الوطنية هذه في حياتنا؟ 

كان الراحل نصرالله يردد أن الإسرائيليين حزموا حقائبهم وجهزوها خلف أبواب بيوتهم حتى يستلّونها على حين غرّة عندما تنهار دولتهم، ويهربون إلى المطار، في طريقهم للعودة إلى الدول التي جاء أجدادهم منها (ونصرالله كان يتصور هذه الدول على أنها أوروبية حصراً بدون أن يدرك أن أكثر من نصف الإسرائيليين ينحدرون من أجداد انتقلوا الى إسرائيل من الدول العربية). كما كان نصرالله يعد مناصريه أن انهيار إسرائيل سيتحقق في "حياة عيننا"، أي في زمننا، لا في زمن الأولاد والأحفاد، وأن مقاتلي "حزب الله" أنفسهم سيصلّون في القدس، وهو سيكون معهم.

نصرالله رحل ولكن مخيلته بقيت، وهي مخيلة تعمد إلى خلط الرواية الدينية بالأساطير، فينجم عنها مقاييس خرافية تشير إلى انتصار دائم لا ريب فيه للعرب ضد إسرائيل، وهو ما يعني أن لا حاجة لأي نقاش يربط بين الإمكانيات المتوفرة والأهداف الممكنة. هي فقط انتصارات دائمة، بغض النظر عن نتائج الحرب، وهذه مشكلة أفدح من مشاكل جيل زريق والمصري الراحل جمال عبدالناصر، ففي زمن الأخيرَين، اعترف العرب بالنكبة، التي تلتها النكسة. عرب زريق وعبدالناصر لم يتوهما يوماً أن الهزائم كانت انتصارات، بل اعترفا بالهزيمة، حتى عندما آثرا العناد و"اللاءات الثلاث" على تغليب مصلحتهم.

المشكلة اليوم  أكبر، لأن عدداً من العرب صاروا أقل واقعية وأكثر عناداً، وهو ما جعل غالبيتهم تغرق في وهم أكبر بكثير من أوهام الجيل السابق، وهو ما يعني أن النكبات والنكسات المقبلة ستكون أفدح بكثير مما سبقها، وهو ما يتطلب عودة إلى الواقع، وإعادة رسم الخطوط واضحة للتمييز بين الهزيمة والنصر، والفرصة المتاحة على إثر أي منهما.

ما حدث منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 هو أكبر هزيمة للفلسطينيين واللبنانيين في كل تاريخهم. لم يسبق أن تفوق عدو على أعدائه كما سحقت إسرائيل كل من حماس وحزب الله، فإن كانت هزيمة 1948 نكبة، فهزيمة 2024 كارثة محققة. 

والقياس هنا ليس بالعسكر وعدد القتلى فحسب، بل أيضاً في دمار البنيان غير المسبوق والذي يكاد يشبه هيروشيما اليابانية، وهو ما يضطرنا إلى سؤال مناصري "المقاومة" و"الممانعة" و"تحريرها كلها ممكن" و"في حياتنا" و"من النهر الى البحر": لماذا لا يقتدون بالمثال الياباني ويعلنون الاستسلام لحقن الدماء ووقف الدمار وتدارس كيفية إعادة الإعمار ورفع مستوى المعيشة، فإن شهدت المجتمعات العربية تطوراً فكرياً ومجتمعياً وسياسياً، يمكن بعد ذلك التفاهم مع الإسرائيليين حول كيفية تحويل حكمهم الذاتي إلى دولة ذات سيادة.

ربما في خضم المعركة وضجيجها، أضاع بعض العرب القصد من الدول والسيادة، فالدول والأرض هي في خدمة الشعوب ولرفاهها، ولا يعقل أن يموت الناس من أجل الأرض أو في خدمتها. 

أعلاه أفكار بسيطة نقدمها للنقاش. ربما نتباحث أنا وأبناء جيلي خارج الصندوق يوماً، وخارج التخوين وخطابات العزة والكرامة والغضب، حتى نقدم سياسات تبدّي مصلحة الناس على مشاعرهم وكبريائهم.

* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن

اقرأ في النهار Premium