أحمد عثمان
في عيد استقلالنا الـ٨١، من العبث أن ننكر مدى الأسى الجماعي الذي يعترينا، وشعورنا بالخذلان، سنةٍ تلو الأخرى، من وطنٍ أقل ما يوصف به أنه فاشل؛ ولا أقصد هنا أننا دولة فاشلة بمعنى المؤشر العالمي للدول الهشة بمقاييسه الخمسة عشر، بل أشير إلى أننا مفشولون جماعيًا من لبنان، كمثل الأم التي يُفشلها ابنها العاق المرة تلو الأخرى؛ أمرٌ عبّرت عنه غادة السمّان منذ ٤٢ عامًا عندما كتبت، "لقد ضيّعتنا بيروت"،
(آهٍ لو تدرين كم من مرة عادت بيروت فضيّعتنا، المرة تلو المرة، منذ ١٩٨٢).
في الوقت ذاته، مستحيلٌ أن ننكر أننا حاليًا في نقطة تحوّلٍ تاريخية، وأن النهاية التي نشهدها لـ"حزب الله" بالصيغة التي عرفناه بها على مدى قرابة العقدين هي - بطبيعة الحال - بداية لحقبة جديدة. من المبكر أن نتلمّس ملامح للحقبة الجديدة هذه، وبالتالي أن نحكم عليها إذا ما ستكون أفضل أم أسوأ من سابقاتها؛ غير أنّ الأكيد أنّ ثمة فرصة سانحة لأن نجعل من هذه الحقبة حقبة نهوض مرة ولكلّ المرات، وأنّ استخلاصًا ما للعِبَر لا بدّ وأن يفيدنا يومًا ما. من هنا، وفي عيد استقلالنا الـ٨١، أودّ أن أستخلص درسًا له اختمر في رأسي منذ حوالي عشرة أشهر، وقد أسمّيه اختصارًا: "حتمية الدولة الڤيبيرية".
خلال أغلب القرن العشرين، كان السؤال الأيديولوجي الأول هو "ماذا نفعل بكارل ماركس ؟"، وبين ١٩٤٧ و١٩٨٩، انقسمت أغلب دول العالم بين رأسمالية واشتراكية، وكانت الحرب الباردة. في ظرف أربعة عقود، أثبتت الاشتراكية (أقله كما طُبّقت آنذاك) أنها أقل تنافسية ومرغوبية واستدامة من الرأسمالية، وعملت ولا تزال تعمل دول أوروپا الاشتراكية السابقة على اللحاق بما فاتها من تطوّر اقتصادي وسياسي وثقافي وبيئي وحضاري خلال العقود الأربعة تلك. لنا أن نقول أنها راهنت - مرغمة - على الفكرة الخطأ، وفي السياسة، نعم ثمّة خطأ وصحّ، والخطأ هو ما لا يخدم المصلحة الوطنية، أو ما يقوّضها. الصوابية النسبية للأنظمة الرأسمالية لم تثبتها حربٌ ما، بل التجربة المعيوشة لدولٍ تبنتها وأخرى لم تتبناها.
على المقلب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، وأيضًا خلال القرن العشرين، ارتسم سؤالٌ أيديولوجي آخر هو: "ماذا نفعل بسايكس پيكو ؟"، حيث شكّكت أغلب دول عرب المتوسط بالنهائية نفسها. وصل الأمر إلى حدّ إعلان الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا عام ١٩٥٨، والجمهورية العربية الإسلامية بين ليبيا وتونس عام ١٩٧٤. اقتاتت نكبة ١٩٤٨ من هذه الأزمة، وخاضت كلّ الدول المجاورة لفلسطين التاريخية (فضلًا عن العراق) حروبًا مع إسرائيل باسم القضية الفلسطينية. بغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الحروب فعلًا ذات جدوى أم عقيمة، أعتقد أنّه من الضروري لنا أن نقف عندها على مسألة جوهرية عبرت عنه، ألا وهي أنّه كانت ثمّة قناعة كبيرة شعبيًا ورسميًا أنّ القضية الفلسطينية تعني جيران الفلسطينيين بقدر ما تعني الفلسطينيين، من منطلق أنّ حدود سايكس پيكو هي حدودٌ استعمارية مصطنعة، ولا قيمة لها أصلًا.
في لبنان، خضنا حربًا أهلية ضروساً حول نهائية الوطن نعم، غير أننا لم نكتفِ بذلك، بل استقبلنا في المقام الأول، وأنتجنا في المقام الثاني قوىً مسلحة غير نظامية، لم يكن "حزب الله" سوى الأخير بينها، وبعدما توقّفنا عن الاقتتال حول نهائية الوطن (توقّفًا لا حسم فيه)، استأنفنا الاقتتال حول ڤيبيرية الدولة. ما أعنيه بـ"الڤيبيرية" هو حصر السلاح بيد الدولة، وأشير به إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس ڤيبر، والذي عرّف الدولة على "التجمّع الإنساني الوحيد الذي تكون فيه الصلاحية لاستخدام العنف محصورةً بجهةٍ واحدة». نحن منذ سنة ٢٠٠٠ على الأقلّ مختلفون حول ڤيبيرية الدولة، وأستطيع أن أقول أنّنا نجحنا في إبقاء خلافنا هذا خارج حدود الاحتراب تقريبًا، بعدما لقّحتنا لذلك تجربة ١٥ سنة من الحرب الأهلية ؛ غير أنّ الأكيد أنّ المطاف انتهى بنا خارج الدولة الڤيبيرية، وبما لا يقبل الشكّ.
قمتُ بكل هذه السردية لأقول أنّ الحرب الشمطاء التي تستبيحنا اليوم، ليست فقط بإشعار الهزيمةٍ لـ"حزب الله"، وليست فقط إشعارًا بنهاية دوره العسكري محليًا وإقليميًا، بل هي أيضًا سقوطٌ أوسع لنموذج الدولة اللا-ڤيبيرية مقابل نموذج الدولة الڤيبيرية، تمامًا مثلما كان سقوط جدار برلين عام ١٩٨٩ إشعارًا بسقوط النموذج الاشتراكي مقابل النموذج الرأسمالي.
بالمختصر، يتبيّن لنا مرارًا وتكرارًا أنّه ليس من قفز فوق جدران الأنظمة الإنسانية، وليس من طرقٍ مختصرة، وقطعًا ليس من طرقٍ ملتوية للوصول إلى ما نريد كأمم. ممّا لا شك فيه أنّ الرأسمالية ملأى بالعلل، وأنّ الڤيبيرية لم تعجب جمهور "حزب الله"، ولم تروِ غليله خلال الإبادة العرقية التي كانت ولا تزال تتعرّض إليها غزة ؛ غير أنّ التجربة المعيوشة أثبتت ألّا خلاص من الرأسمالية إلّّا من خلال المرور عبرها كاملةً، ودمارنا الحالي أثبت أن الحرب التي يعلنها أيّ فصيلٍ غير نظامي لن تنصر قضيّته المعلنة، (إيقاف حمام الدم في غزة) ولا غير المعلنة، (إعطاء إيران المزيد من أوراق التفاوض في ملفّها النووي)، بل ستكسره.
في الحرب القادمة، في السلم القادم، في سنتنا القادمة من هذا الاستقلال المرير، أقبل هذا الوطن العظيم على فمه وجبينه ووجنتيه، وأتمنّى له كلّ الـagency.
الآيدجنسي هي كلمةٌ موجودة في القاموس الإنكليزي، وليس لها من مرادف في العربية (ولا في الفرنسية ولا الألمانية). الآيدجنسي، ليس بمعنى الوكالة المؤسسة، بل بمعنى امتلاك زمام الأمور، أو أقلّه أن يكون لنا كلمة فيها. هي كلمة مثقلة بالمسؤولية المتأتية عن الحرية، والآن وبعد طول تمعّن في هذه الكلمة اللعينة، أستطيع أن أقول أنّها شيءٌ يضارع الاستقلال بما فيه من توازنٍ مدهش ما بين الهشاشة والصلابة، والتوحّد والسموّ.