في ٦ شباط ٢٠٢٣ وقعت زلازل في تركيا وسوريا، وشعر فيها اللبنانيون في كلّ مكان. ثمّ توالت التحذيرات مع تعليمات من الدفاع المدني حول كيفية الاستعداد والتعامل وتهيئة الضروريات وسبل الاحتماء أو النجاة بين هزتين.
وكان خبير هولنديّ دأب آنذاك على التحذير من زلازل وهزات أخرى ستضرب المنطقة وبينها لبنان الذي يقع فيه أكثر من فالق والذي تعرّض تاريخياً لزلازل وهزات أرضية كثيرة.
وإذ خيّبت الفوالق الطبيعية إنذارات الخبير الهولندي، رغم أنّها أثارت الهلع والرعب عند اللبنانيين الذين كانوا يعانون أصلاً من تداعيات الهزات السياسية والاقتصادية والمالية و المصرفية، فضلاً عن الهزات الأمنية التي تقدّمتها جريمة تفجير المرفأ المروعة، وما رافقها من تهديد للقضاء لمنع استكمال التحقيقات، فإنّ الفوالق السياسية التي لم تهدأ حركات طبقاتها منذ عقود وخصوصاً منذ زلزال اغتيال رفيق الحريري وإخراج القوات السورية من لبنان و الدخول لاحقاً في العصر الإيراني عبر فائض قوة "حزب الله"، للأسف لم تخيّب الخبراء والمحللين والدبلوماسيين وقارئي الكفّ والفناجين بمن فيهم نجوم رأس السنة واللبنانيين العاديين الذين حذّروا الحزب الالهي من مغبّة مشاغلة الوحش الاسرائيلي.
فهذا الوحش الضاري أثار رعبه وشهيته في آن عملية طوفان الأقصى "السوريالية الحماسية" قافزاً نحو غزة، أرضاً وشعباً وعمراناً، بآلة حرب غير مسبوقة معزّزة بأحدث وسائل التدمير الأميركية والغربية، وبمشهد أبوكاليبتي عجزت عن مثله استوديوهات هوليوود رغم ما تهيّأ لها من برامج الذكاء الاصطناعي الأكثر تطوراً.
هكذا أُدخل لبنان، المنهك أصلاً من مسلسل الأزمات والانهيارات، ومنذ اليوم الثاني للطوفان بمواجهة عسكرية، قالوا عنها أنها مدارة بقواعد اشتباك مضبوطة بميزان الجوهرجي! وكأنها لعبة اولاد تدور في ملعب مدرسة متوسطة، رغم ما كانت تحدثه من حرق وتدمير وتهجير و قتل واغتيالات يومية لقادة ولكوادر من الحزب، قبل التحول النوعي وتنفيذ مجزرتي الباجر والتوكي واكي وصولاً لاغتيال معظم قيادات "حزب الله" العسكرية والأمنية والجهادية وفي مقدمه أمينه العام السيد حسن نصرالله وخلفاؤه بعيد أيّام من بدء الهجوم الشامل والذي حذر منه الجميع واستخفّ به "حزب الله" المتأبّط نظرية توازن الردع الوهمية، والتي استبطنت على الأرجح وزن القوة الايرانية الإستراتيجية وأذرعها ضمن شعار وحدة الساحات الخاوي.
لا يختلف اثنان طبيعيان على أنّ قرار المشاغلة و المساندة كان قرار الراعي الإيراني للحزب الذي أراد تثمير هذه المشاغلة مع " الشيطان الاصغر" في صفقة يسعى جاهداً لإبرامها مع "الشيطان الأكبر" في الترتيبات الإقليمية القادمة، ولطالما قال السيد نصرالله انّه جندي في ولاية الفقيه. كل السرديات الأخرى وبعضها تخيلات ممانعة لم تكن سوى ذرّ للرماد في العيون، و منها ما نقل عن الراحل انّه لا يريد ان يقال ان احفاد علي لم يسعفوا إحفاد عمر.
علماً أنّ إقحام قضايا الخلافة وتعقيداتها وملابساتها ليست لصالح هذ التخيل، بالنظر للمشهدية الدرامية التي طبعت مشاهد الحصار والقتل والاغتيالات والتدمير في معظم مدن وحواضر المنطقة على مدى عقود، وأحياناً بالتناغم المصلحيّ بين الملالي والشياطين والقياصرة.
أدّت مشاغلة "حزب الله" لإسرائيل لبعض المتاعب والخسائر البشرية، بما فيها تهجير الجزء الأكبر من مستوطني المناطق الحدودية، إلّا أنّها وفّرت لها دينامية الحوافز والذرائع والوقت الكافي للإعداد الإعلامي والنفسي والشعبي واللوجستي لإطلاق حربها التدميرية على لبنان بعد أن أنجزت تقريباً أبوكاليبس غزة.
والجدير ذكره أنّ حرب المشاغلة سحبت جزءاً من الضوء الإعلامي من المشهدية الدموية في غزة و الضفة، خصوصاً بعد انفلات وحش التدمير الصهيوني في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية ومناطق أخرى. وقد قتل الآلاف من الغزيين والمئات من أهل الضفة (التي تصاعد استهدافها من الجيش وقطعان المستوطنين، كما علت الأصوات لضمّها أو أجزاء واسعة منها للكيان الصهيوني) منذ أواخر أيلول بشبه صمت إعلاميّ دولي. لقد جذبت مشهدية الدمار الأبوكاليبتي في لبنان معظم الاهتمام الإعلامي، ولكنّ الخالي من النفس التضامني، بالمقارنة مع الحالة الفلسطينية. فبغضّ النظر عن موقف المجتمع الدولي من تنظيم وأساليب حماس المستتبعة للمحور الإيراني، فإنّ للقضية الفلسطينية وهجاً خاصاً لا يشعّ نحو لبنان المرمي في أتون الصراعات بسبب لعنة الموقع وعجز طبقته السياسية، المتسربلة بالانقسامات الفئوية والطائفية، عن المواجهة السيادية والاجتماعية، رغم ما قدّمته نخبها من تضحيات وما تعرّضت له من اغتيالات، ورغم مسلسل الانتفاضات الشعبية غير المسبوقة. فيا لعبثية هذا الإسناد، خصوصاً حين لا يجد سنداً حقيقياً له من رأس المحور ومن أذرعه المتخلخلة.
لا يختلف اثنان حول بسالة وقدرة مقاتلي "حزب الله" على إنزال الخسائر في المواجهة المباشرة مع العدو الإسرائيلي، رغم التصدّع الهائل لصورة الحزب وانهيار دوره المبني على سردية توازن الردع وعلى الحماية والبناء. ولكن عبثاً مقارنة هذه الخسائر بما فيها الناتجة عن هجمات الصواريخ والمسيّرات داخل الكيان الإسرائيلي بالنكبة التي حلّت في لبنان وخصوصاً في البيئة الحاضنة لـ"حزب الله".
فهل نقارن بين دخول الإسرائيليين إلى الملاجئ المحصّنة والمجهّزة ودفنهم اللائق لقتلاهم القلائل نسبياً، بالإذلال والذعر الذي يسيطر على اللبنانيين في انتظار انذارات أفيخاي أدرعي، وكأنّهم ينتظرون توقيت الزلزال الذي حصل مراراً دون إنذار. علماً أنّ الأكثرية الساحقة من أهلنا النازحين لم تحمل معها شيئاً يُذكر كي تنجو من الجحيم، إذ لطالما دفن القصف الإجرامي عائلات بكاملها مع ذكرياتها تحت الركام. أين هذا الجحيم من قول هيرودوت في أنّ الابن يدفن الوالد في السلام والوالد يدفن الابن في الحرب.
وإذ عجز الحزب عن حماية بيئته المنكوبة فإنها قد وجدت احتضاناً واسعاً في البيئات اللبنانية الأخرى، ما يؤكد أنّ وحدة اللبنانيين ما تزال صامدة رغم العقلية القبائلية والطائفية والغنائمية التي تطبع معظم الفئات السياسية والتي سهلت لـ"حزب الله"، خوفاً وتخاذلاَ أو فساداً وتواطؤاً، السيطرة على البلد وتحويله ساحة للمواجهات الدموية في خدمة راعيه الإيراني، فضلاً عن تحوّل ميليشيا الحزب إلى فرق جوّالة لقمع الثورات والانتفاضات في لبنان وسوريا وغيرهما.
لقد فشلت المعارضات والنخب السيادية والتغييرية والمستقلة في استحضار المصلحة الوطنية العليا وفي استنفار اللبنانيين للدفاع السلمي والديمقراطي عن الوطن لكبح جماح "حزب الله". والجميع كانوا قد عجزوا أو لم يرغبوا أو تعثّروا في تثمير حركتي ١٤ آذار ٢٠٠٥ و١٧ تشرين ٢٠١٩ الباهرتين في هذا الاتجاه، فمنهم من رفع شعار الإستراتيجية الدفاعية الملتبس، ومنهم من رفع العتب معتبراً سلاح الحزب مشكلة إقليمية، وقلّة تجرأت بالقول إنّ هناك احتلالاً ايرانياً بواسطة الحزب المدجّج بالسلاح والأيديولوجيا.
وخلال سنة كاملة من الحرب "المضبوطة" لم ترتقِ القوى السياسية المتبعثرة إلى مستوى المسؤولية وتطلق دينامية سياسية موحّدة باتجاه "بريستول ما"، بعنوان وطني واضح وجامع وعابر للأفكار والطوائف والمناطق والأشخاص حول استعادة الدولة كرامتها وسيادتها عبر استرداد قرار الحرب والسلم والعمل على تنفيذ القرار 1701 بكافّة مندرجاته كاملاً دون تشاطر واعتبار حصرية السلاح بيد الدولة وجيشها مسألة مفروغ منها التزاماً بالدستور الذي يعلو فوق كلّ اعتبار، وطبعاً انتخاب رأس الدولة وإكمال ركائز هرم الدولة الدستوريّ. ربما كنّا تفادينا العاصفة الهوجاء وأخرجنا لبنان من بين مطرقة المتطرّف الصهيوني نتانياهو المزهو حالياً بالنكهة الترامبية العنصرية وسندان الداهية الفارسي خامنئي المدجّج بالأجساد اللبنانية العربية.
أمام الحقائق الجديدة التي أرستها الحرب المدمّرة ، بما فيها تفكّك فكرة الردع والحماية وتداعي دور "حزب الله" وتصدّع لوحة الموالاة والمعارضة، وأمام الأخطار الكيانية التي تنفلش تباعاً، بالنظر إلى حجم الدمار والنزوح والكارثة التي وقعت خصوصاً في البيئة الشيعية، فإنّ اللبنانيين بمختلف مشاربهم السياسية والمدنية والاجتماعية والفكرية مدعوون للتبصّر الذهني والتيقظ السياسي والاستنفار المدني الديمقراطي والتلاحم الاجتماعي واستباق احتمالات الفوضى الأمنية والسياسية. فاللبنانيون أصبحوا أمام معركة إنقاذ وطني بكامل أبعادها لبناء دولة سيّدة تحتكر السلاح وتفرض الأمن والاستقرار على كامل أراضيها كأيّ دولة أخرى.
وهذا يستدعي العمل على وقف الحرب المدمرة والالتزام باتفاق وقف إطلاق النار بتفاصيله ومندرجاته دون أيّ تذاكٍ ودون أيّ أوهام. وهو ما يعني الوداع الناعم للمرحلة الماضية وعودة احتكار الدولة السيدة للسلاح والتفكير خارج الصندوق لابتداع مقاربات وطنية وديمقراطية ومدنية جامعة (تستوعب الجميع وتشعرهم بالعدل والأمن والأمان السياسي والاقتصادي والاجتماعي)، و تستند في هذه المرحلة على الدستور الذي يبقى سلاح اللبنانيين الأساسي في مواجهة ترددات الزلازل المدمرة في منطقة قال عنها أحد المستشرقين المتعالين في القرن التاسع عشر أنّ عندها الأنبياء وأنّ أوروبا عندها الأطبّاء.
ومع اعترافنا باتّساع الهوة و بانحدارنا المتسارع، إلّا أنّ اللبنانيين المتعلّقين بوطنهم، مقيمين ومنتشرين، مصمّمون رغم كلّ الصعوبات على قلب الألم إلى أمل والعمل مع "أطبائنا" لبناء دولة سيّدة، عربية حرّة مزدهرة ومنفتحة على أوروبا والعالم، مستفيدين من العمق العربيّ الطبيعي ومن تنوّع وغنى ثقافاتنا وقدّم تاريخنا الذي احتضن الكثير من الحكماء.