دكتورة سالي حمود
تصعب الكتابة في ظل المظلومية التي يعيشها لبنان، ليس فقط بسبب اضطراب كلٍّ من المشاعر والعقل والجسد، بل ما يحيط هذه المرحلة من اضطراب في الأخلاق والقوانين والإنسانية.
في هذه المرحلة الحساسة، يصعب اختيار الكلمات المناسبة التي ترضي الجريح والشهيد والمنكوب، كما يصعب تكوين أفكار جديدة تمكّن من استيعاب فكر من يرى في سحب شرعية لبنان في الدفاع عن أرضه حين وقع ما وقع، وحصل ما حصل، وفرضت الحرب علينا. لا أدري إن كانت فرضت علينا داخلياً أم حوكمنا بها خارجياً، إذ لست بصدد نقاش سياسي في غير زمانه، ولا في نقاش إيديولوجي لن يحضر أبداً زمانه.
في هذه الأيام نلتهم جميعنا الأخبار دون تخمة ملتصقين بالشاشات، تلك الشاشات بين أيدينا التي تخلط حابل الأخبار الصحيحة بنابل الأخبار الزائفة والمفبركة، وتلك الشاشات التي عدنا إليها بعد انقطاع طويل عنها كان أحد أسبابه انكشاف الإيديولوجيات التي تموّلها وتوجهها بحسب أجنداتها السياسية.
أصبحنا نلتهم الشاشات أكثر، ربما لأن تغطية الحروب تستوجب خبرات واستراتيجيات في صحافة النزاعات قد تكون خارج مهمات تلك الوسائل البديلة، مع أن معظم هذه المنابر يديرها مخضرمون في تغطية الحروب في كل العالم.
مثلما عدنا إلى الشاشات خارج هواتفنا، عدنا إلى الشاشات المحلية بغض النظر عن اتجاهاتها، واستعضنا عنها بالمحطات الفضائية التي مللنا سردياتها المتكررة، سواء اتفقنا أم اختلفنا معها.
الحرب على لبنان قضية شخصية ووطنية وعاطفية، ولا يمكن لأي صحافة عربية أو غربية أن تغطي هذه القضية أفضل من الصحافة اللبنانية لما تعنيها هذه القضية. لطالما كانت وستبقى بيروت منارة للصحافة الحرة في المنطقة.
ولكن، ولكن، ولكن....
ولو أن الوضع لا يحمل نشر غسيلنا أمام العدو والصديق ولا الحليف في الوطن، وطبعاً أولاً وآخراً الشريك في الوطن.
أمام سيل ما ينشر على وسائل التواصل وما تنقل منه الشاشات، يجب الوقوف عند مواقف العديد من الزملاء والزميلات من تحرّكهم العاطفة وتخونهم الكلمة المناسبة، ليصبح مادة دسمة على الشاشات الصغيرة والكبيرة ما يدفع بالقضية نحو الانقسام.
نعم أدري أن هناك انقساماً قبل الحرب، أدري. ولكن حين يَهتِكُ أرضي وشعبي وجوّي عدواً أُحُداً، شاهدناه على الشاشات نفسها يقتل الأطفال والنساء ويمحو عائلات من السجلات كما يقصف المستشفيات،
لابد أن أؤجل الانقسامات وأتناسى الاختلافات كما علي أن أتفادى الاستفزازات. لأننا شعب مجروح متروك لينازع وحيداً، ولا نملك إلا هذه الأرض، وهي معرضة للاجتياح، ولا نملك الا بعضنا البعض وقد تعرضنا أصلاً للاختراق.
لست أتحدث عن الاختراق بالتكنولوجيا، فلذلك الحديث زمانٌ آخرٌ، وأَعِدُ بأن أنشرَ عن هذا الموضوع في مقال مخصص للحديث عن التكنولوجيا في الحروب، من واجبي كأستاذة في الذكاء الاصطناعي في الإعلام. ربما بعد اجتياز مرحلة الاضطراب العاطفي والعقلي والجسدي.
أتحدث عن اختراقنا كشعب مفترض أنه متماسك ضد الغازي والمحتل والطامع، ولكن استطاع المتحدث باسم العدو باللغة العربية أن يستوعب خلافاتنا السياسية والطائفية والعقائدية، ويستخدمها في رسائل قصيرة نقلب بها الطاولة على بعضنا البعض.
لن أطيل أكثر مما أطلت، ولكنني بدأت بالحديث عن صعوبة إيجاد الكلمات المناسبة وتكوين الأفكار الجديدة لأطالب الزميلة المثابرة مجدولين اللحام بفيديو أو بيان أو حتى تغريدة توضيحية، حول ما نشرت مؤخراً وما تُهم إليها من توفير معلومات للعدو، كما أطالب الزملاء في الضفة الأخرى من هذا التخابط أن يخففوا من خطاب الكراهية رداً على ما أسموه تحريضاً من خلال خطاب الكراهية.
في هذه القضية، وفي هذا الزمن تحديداً، لن اتخذ موقفاً سياسياً أو إجتماعياً لا يدين العدو الإسرائيلي وحلفائه بالإضافة إلى أصدقائه. لا رمادية في هذه القضية. ولكني، في هذه المرحلة أقبل أن أوسم بأني أتخذ دوراً إصلاحياً بين الخطابين، لأنني أفهم الغضب والاندفاع من جمهور ضفة، كما أتفهم خوف وزعزعة الضفة الأخرى. لن أسقي الكره بالكره، بعكس إيماني بأنه لا يمكن محاربة التكنولوحيا إلا بالتكنولوجيا. فالموضوع مختلف، وهنا اختلاف الذكاء الانساني عن الذكاء الاصطناعي وللحديث فيه تتمة.
في خضم كل ذلك، أنا أبحث عن مكانٍ أبكي فيه بعيداً عن كل عين وعن كل شيء. لا أريد لعدوٍّ أو خصمٍ أن يراني أو أو صديق أو زميل أن يلمح تخبطاتي، ولا حتّى أمي أن تطبطب على جراحاتي، ولا أبي أن يلملم خوفي. أريد أن أبكي وحيدة، ولكني لن أضعف..
في المحصلة، شئنا أم أبينا نحن اليوم أمام استحقاق كبير، استفاد فيه من انقساماتنا واختلافاتنا العدو على مدى السنين، ولازال يستفاد من زلاتنا وأخطائنا وانفعالاتنا، وعلينا اليوم أن نحرص ألا ينال من إعلامنا. فالحرب دائماً وأبداً عبارة عن ثلاث استراتيجيات متصلة؛ الاستراتيجيات العسكرية، الاستراتيجيات السياسية، والاستراتيجيات الإعلامية. وبغض النظر عن نتائج أي من هذه الاستراتيجيات لا يمكننا أن نقبل بخسارة الحرب الإعلامية في إرثنا الاعلامي والأدبي والفكري.